​ هل تكون رحلة بايدن إلى السّعودية كـ"مسير إلى كانوسا"؟


جراسا -

طرد البابا غريغوريوس السابع الإمبراطور الروماني هنري الرابع خلال النزاع على سلطة الإمبراطورية الرومانية العلمانية المقدّسة والسلطة الكنسية للكنيسة الكاثوليكية عام 1076. وفي العالم التالي أجبِر هنري على السفر خلال عاصفة ثلجية نحو قلعة كانوسا في إيطاليا ليتوسل إلى البابا من أجل إلغاء الحرمان الكنسي بحقه. تضرّع هنري الرابع راكعاً على أبواب القلعة لثلاثة أيام بلياليها، قبل أن يوافق البابا على مقابلته رسمياً.

أُطلِق على الرحلة المذلّة تلك اسم "المسير إلى كانوسا"، وأصبحت كانوسا رمزاً وتذكرة بالخضوع والمهانة أو التكفير عن الذنب. ونستعين بمثال من معجم ميريام ويبستر: "قصَد كانوسا عندما غيّر سياسته".

ربما تعيد حادثة المسير نحو كانوسا نفسها في تاريخنا المعاصر بسعي رئيس الولايات المتحدة الأميركية جو بايدن لزيارة شخصية لمحمد بن سلمان، ولي العهد السعودي.

فها هنا زعيمان كلّ منهما يفخر بقيمه وثقافته، ويلتزم بتعزيز مصالح بلاده، وينشد احترام مواطنيه ودعمهم. وعلى الرغم من تفاوت حجم الدولتين وقوتهما، لدى كلا الزعيمين مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة مهمة.
وتخال أن عليهما توخي الحذر في حساب الأفعال والكلمات التي يوجهانها لبعضهما بعضاً.

حسناً، أعلن بايدن أثناء ترشحه للرئاسة وجوب معاملة المملكة العربية السعودية على أنها دولة "منبوذة"، نظراً إلى سجلها في قضايا حقوق الإنسان. كما أرجأ بايدن تسليم أسلحة من المقرّر تقديمها للسعودية، وحذرها أمام العلن قائلاً: "الأمر برمّته يتعلق بحقوق الإنسان".

ربما كانت هذه قضية نبيلة، لكن زعماء الأمم لا يتقبلون التوبيخ العلني بصدر رحب، لا سيما في ما يخص ممارسات ثقافية قديمة العهد متجذرة بغالبيتها في الدين.

تراجع بايدن عن قرار إدارة ترامب بشأن تصنيف المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن ضمن المنظمات الإرهاب الأجنبية. وشن الحوثيون هجمات صاروخية متكررة وهجمات بالطائرات المسيّرة ضد السعودية والإمارات.

انكشفت جسامة التقديرات الخاطئة هذه، عندما أدرك بايدن وجوب إعلاء مصالح الولايات المتحدة البراغماتية في العالم أحياناً حتى فوق قيمها المثالية.

قلّصت سياسات إدارة بايدن من اعتماد الولايات المتحدة على الوقود الأحفوري، ما تسبب في تفشي التضخم. ونتيجة لذلك، باتت الولايات المتحدة اليوم تستجدي السعودية لضخ المزيد من النفط بغية خفض أسعار الوقود ومكافحة التضخم والضغط على روسيا في حربها على أوكرانيا.

لكن، وفي خطوة غير مسبوقة، رفض محمد بن سلمان الرد على اتصال هاتفي من بايدن شخصياً. ومن الواضح أن هذا التجاهل جاء رداً على سياسات بايدن وتوبيخه السابق. ويجد رئيس الولايات المتحدة نفسه اليوم مجبراً على تغيير كلامه ونبرته وأفعاله إرضاءً للزعيم السعودي.

أضرّت عجرفة الأميركيين كذلك بعلاقتهم مع أميركا اللاتينية. فعندما دعا بايدن إلى عقد "قمة الأميركيتين" في لوس أنجليس، رفض بعض قادة الدول اللاتينية دعوته، ودعوا الدول الأخرى إلى تحاشي حضور الاجتماع. فربما لم يولوا أهمية لتلقي محاضرة أميركية على غرار بن سلمان.

لا بد لأميركا، بلا شك، من أن تكون حاملاً لشعلة الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان أمام العالم، لكن يجب أن نوازن بين المثالية والبراغماتية، لا سيما مع الحلفاء. لا بد من أن نشدد من وقت الى آخر على أجندتنا الأخلاقية من خلال إحلال التعاون والدبلوماسية الرصينة الحازمة وليس بإطلاق تصريحات التصويب العلنية والأحادية الجانب.

تعمَد الولايات المتحدة إلى تطبيق قيمها وثقافتها أمام التحديات الأجنبية حتى على حساب مصالحها الوطنية في بعض الأحيان. ارتكبت الولايات المتحدة هذا الخطأ مراراً في الشرق الأوسط، حيث لم يتلاءم النمط الأميركي للديموقراطية بسهولة مع مزيج معقد من الثقافات والقيم. إنه سوء الفهم المنهجي المكلِف الفاشل ضمن مؤسسات الولايات المتحدة السياسية والدبلوماسية والأمنية وحتى العسكرية في بعض الأحيان.

في الأيام الأولى من عملي مديراً تنفيذياً، سرعان ما علمت أن الكثير من مصادر الموارد التي أحتاجها من مصارف ومورّدين لم ترفع تقاريرها إلي بعد. وأدركت أهمية الحرص على ديمومة العلاقة الإيجابية المثمرة مع هذه الأطراف حتى عند تعسر المفاوضات لاستمرار العمل. وفي السياق نفسه، لا يمكن لدولة أن تستقل تماماً عن الدول الأخرى في عالم مترابط بعضه ببعض.

حتى وإن تمتعت الولايات المتحدة بمكانة أخلاقية عالية، فلا يمكنها إجبار الدول الأخرى على الدوام على إظهار حسن النيات والتعاون عندما يطيب لها ذلك. كما لا يمكنها تنفيذ أعمال تجارية فقط في تعاملها مع الدول الأخلاقية، وذلك في الحقيقة ليس من شيَمها. يتطلب الخوض في غمار الصراع بين القيم الوطنية والمصالح الوطنية دوماً قيادة ماهرة.

إذا التزمت الإدارة الأميركية الحالية نهج المراعاة الأكثر دبلوماسية بغية العمل مع المملكة العربية السعودية، فلربما يكون الاتصال الهاتفي الذي أجراه بايدن مع محمد بن سلمان كافياً لكسب الدعم السعودي، وربما مكّن بايدن من تجنب زيارة المملكة العربية السعودية أو رحلته نحو كانوسا.


عن فورين بوليسي نيوز
*رافاييل بينارويا

*رافاييل بينارويا رجل أعمال أميركي وفيلسوف ونائب سابق لرئاسة مجلس إدارة "منظمة بزنس إكزيكوتيف فور ناشيونال سيكيوريتي" غير الحكومية. وانخرط في مجال الأمن القومي والسياسة الخارجية لأكثر من 30 عاماً.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات