المدنيّة والحضارة


بقلم: أنس معابرة

في المجلَّد الأول من "قصة الحضارة"، وتحت عنوان نشأة الحضارة؛ ذكر الزوجان ديورانت: "العناصر السياسية والإقتصادية للحضارة"، وكتبا تحت عنوان آخر منفصل: "العناصر الأخلاقية والعقلية للمدنيّة".
وفي السياق ذاته؛ ذكر الرحالة المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة كتابه "تاريخ أبن خلدون": "الإنسان مدنيّ بالطبع"، ولم يُشر الى حضارية الإنسان، أو الى أنه حضاريٌّ بالطبع، فما هو وجه الإختلاف بين الكلمتين؟ ولماذا فصل ديورانت بين مقومات الحضارة، ومقومات المدنيّة؟
قد يتباين تعريف الحضارة من شخص الى آخر، ولكن ربما يتفق الجميع على أن الحضارة هي مقدار ما ينتجه المجتمع من المعارف والفنون والآداب، وجميع الأشكال المادية والمعنوية للمجتمع، والمتشكلة في المباني والعمران، وهذا هو السبب الذي دفع ويل ديورانت للحديث عن العناصر السياسية والإقتصادية للحضارة، أي مستلزمات التطور والبناء والنهضة. وعندما نتحدث عن الحضارة الإسلامية في الأندلس مثلاً، فإننا نشير الى المساجد والقصور والجسور والشوارع التي أقامها المسلمون هناك.
وبالمثل؛ عندما نتحدث عن الحضارة الغربية اليوم، ونصِف شعوبها بأنها شعوب مُتحضِّرة، فإننا نقصد بهذا أن تلك الشعوب قد أقامتْ العمران، ونهضتْ بالبنيان، ومدّتْ الشوارع والأرصفة، وإستخدمت وسائل التكنولوجيا الحديثة بكثرة. وهو ذاته ما ينطبق على العديد من الشعوب العربية والإسلامية، التي تركت البداوة وإنتقلتْ الى الحَضَر، وإتخذت من المُدن مسكناً لها، وبدأت في إعمار البلاد، وإقامة الأبراج والحدائق والمدارس، والمساجد، والمستشفيات، وغيرها.
أما المدنيّة؛ فهي تطور الجانب الروحي والأخلاقي في حياة الإنسان، وهو ما دفع ديورانت للحديث عن العناصر الأخلاقية والعقلية للمدنية، وهو ذاته ما قصده أبن خلدون حين تحدث عن مدنية الإنسان. وعندما أهبط الله سيدنا آدم عليه السلام وزوجته حواء الى الأرض - كما أورد أبن الأثير -؛ كان آدم يبحث عن حواء في النهار ويرتاح في الليل، وكانت حواء تبحث عن آدم في الليل والنهار، كل هذا لأنهما أدركا أن لا حياة دون تشكيل علاقات مع الآخرين.
اليوم لقد بلغت الحضارات الغربية أشُدَّها، وتأثرت الكثير من المجتمعات بها، وسعت الى تقليدها، ولكن غابت المدنية عنها، وساعدت القوانين على توفير الحرية المُطلقة للجميع، من غير ضوابط دينية أو أخلاقية أو إجتماعية وعُرفية لها.
لقد عانى الناس فيها من الإفتقار الى الأخلاق والإيمان والقناعة والصدق والأمانة وحسن الجوار، وكان هذا هو السبب في ظهور اللادينية والمِثلية الجنسية، وإدمان المخدرات والكحول، والميل الى الإنتحار، والعنف الجسدي تجاه الآخرين.
حصل روبن وليامز على جائزة الأوسكار، وست جوائز جولدن غلوب، وجائزة الأيمي مرتين، وخمس مرات لجائزة غرامي، كل هذا يعني أننا أمام شخص ناجح في حياته المهنية. وعلى الجانب الآخر تزوج وليامز ثلاث مرات، وأنجب ثلاثة أبناء، وفي عام 2014 أنهى حياته بالإنتحار، فما الذي يدفع شخصاً ناجحاً مثله الى الإنتحار؟ وما الذي يدفعه الى التخلي عن زوجته وأبناءه ونجاحه وشهرته الواسعة؟
إن التطور الحضاري الغربي الكبير، ترافق مع تخلُّف واسع في الجانب الروحي، وأصبحت الهوة كبيرة بين الحياة المادية المترفة التي يعيشها الغرب، وبين الفراغ الروحي الذي يعانون منه، ولولا أسلوب حياتهم الذي يميل الى المتعة المادية بجميع أشكالها، لإرتفعت نسبة الإنتحار لديهم بشكل كبير.
بينما أولى الإسلام الإهتمام الى كلا الجانبين؛ الحضاريّ والمدنيّ في حياة الإنسان، وكما أهتم الأنبياء والولاة والملوك والخلفاء بالبناء والعمران، كان إهتمامهم بصلاح الشعوب وتقواهم، وكما أظهروا الاهتمام بتخطيط المدن ورصف الشوارع وبناء الأقواس والجسور والمستشفيات، كانوا حريصين على تنظيم علاقات الناس ببعضهم البعض، والتأكيد على الحرية الفردية المنضبطة بقواعد الدين والعادات والتقاليد المجتمعية.
لقد بُعث رسولنا الكريم متمماً لمكارم الأخلاق، ومكملاً للجانب الروحي، ونظم القرآن الكريم علاقاتنا ببعضنا، وبين لنا الحقوق والواجبات من خلال قانون عادل شامل.
لقد دأب شبابنا خلال الفترة الأخيرة على التقليد الأعمى للغرب بهدف الوصول الى مثل حضارتهم، فقادهم هذا الى الفراغ الروحي في مدنيتهم، وبات هذا واضحاً جلياً من خلال السلوكيات المنحرفة التي نسمع عنها كل يوم.

خلاصة القول:
الحضارة والمدنية هما الوجهان للتطور والتقدم الحضاري، الحضارة تختص بالجوانب المادية كالعمران والمعارف والفنون والتكنولوجيا، والمدنيّة تختص بالأفكار والعقائد والأخلاق.
إن التخلف في واحدة من الحضارة أو المدنية معناه تعريض الأمة لخطر السقوط والإنهيار القريب، تماماً كما حدث مع الأمم والممالك الغابرة، فلقد سقطت الكثير من الدول بسبب ضعف التحصينات والدفاعات أمام الأعداء (تخلُّف حضاريّ) كالإمبراطوريات الأوروبية، وهلكتْ العديد من الأمم بسبب الأمراض والإبتلاءات لعقائد أو أخلاق فاسدة (تخلُّف مدنيّ) كقوم لوط، أو مملكة سبأ، أو قوم صالح.
إذا كنا نتطلع الى الغرب بإنبهار لمقدار الحضارة والتطور الذي وصلوا اليه، لا يكون هذا دافعاً لتقليدهم بشكل أعمى، فمدنيتهم متخلِّفة جداً، ويعانون من كثير من المتاعب النفسية والفراغ الروحي، الذي يقودهم الى السلوكيات المنحرفة والإدمان والإنتحار والعنف.
ستجد في تعاليم الدين الإسلامي السر في الموازنة بين الحضارة والمدنية، فالقرآن يوضح لنا آليات تسخير الأرض وما عليها للإنسان، وفي الوقت ذاته تجد فيه قانوناً عاماً شاملاً وعادلاً لتنظيم العلاقات بين الناس.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات