القصة ليست مسيرة أعلام .. إنها معركة السّيادة على القدس


ميرال قطينة

في اليوم التالي للمسيرة، عادت الحياة إلى طبيعتها في مدينة القدس، وتوافد التجار إلى البلدة القديمة لفتح محالهم، وخرج الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم، وعادت الحركة إلى الأسواق التجارية وكأن شيئاً لم يكن، بعد انسحاب الغزاة الذين تمركزوا في مواقعهم ما دامت الشرطة وقوات الجيش المعززة ترافقهم وتحرسهم، وتنصب الحواجز وتغلق كل الطرق والشوارع الفرعية لأجلهم.

استعاد الفلسطينيون مدينتهم بمجرد انسحاب آخر مستوطن يرافقه الجيش، مخلفين وراءهم نفايات من زجاجات بلاستيكية وملصقات وعصي الأعلام المحطمة وبقايا أعلام ملقاة على الأرض، وبدأ عمال النظافة تنظيف ساحة باب العمود. فقد تحوّلت "مسيرة الأعلام الإسرائيلية" التي يحييها المستوطنون الإسرائيليون كل عام في ذكرى احتلال المدينة المشؤوم، إلى معركة وجود وسيادة على مدينة القدس.

وأثبت الحوادث التي وقعت في المدينة المقدسة أنها لم تكن يوماً مدينة موحّدة، لذلك احتاجت السلطات الإسرائيلية لتأكيد سيادتها المزعومة على المدينة ، بأن تعيد احتلالها من جديد كما فعلت في حزيران (يونيو) عام 1967، فالأعداد الضخمة من الجنود الإسرائيلين وحرس الحدود والقوات الخاصة الذين تم استدعاؤهم من الضفة الغربية، والتي أغلقت المدينة وحوّلتها إلى ثكنة عسكرية منذ ليل السبت الماضي في وجه الفلسطينيين، كانت تقوم بإفراغ الأحياء وأزقة البلدة القديمة من سكانها الفلسطينيين، ولم تكن تعمل على تأمين مسيرة المستوطنين، ناهيك بأن السيطرة بقوة السلاح، ومن خلال كل الأجهزة الأمنية، لا يعتبر سيادة أو سيطرة.

كان خيار الحكومة الإسرائيلية هو إخلاء شوارع القدس من سكانها الفلسطينيين من أجل السماح للصهاينة الدينيين والقوميين (الذين يعتمرون القلنسوات المنسوجة)، ومن أتباع المنظمات الإرهابية مثل "كاخ" و"لافاميليا" و"لاهافا"، من دخول البلدة القديمة بأعداد كبيرة، وإحراق علم فلسطين ... وسرقة هواتف الصحافيين الفلسطينيين.

لا شك في أن ما حدث في القدس، منذ يوم السبت وحتى الأحد مساءً، يطرح تساؤلات كثيرة: هل تغير شيء في القدس، أم في الحرم القدسي الشريف؟ هل يستطيع هؤلاء المستوطنون العودة بهذه الأعداد حاملين الأعلام إلى محيط البلدة القديمة من دون وجود كثيف ومرافقة أمنية وحماية من الشرطة والجيش الإسرائيليين؟

بحسب المحللين السياسين الإسرائيليين في الصحف والمواقع الإخبارية، فإن "مرور مسيرة الأعلام الإسرائيلية لا يثبت وجود سيادة إسرائيلية في القدس، بل إنه لا يثبت شيئاً سوى أن ما حصل هو استعراض لقوة إسرائيل الأمنية ليس أكثر من ذلك".

يشار إلى أن الحاخام غيرشون أديلشتاين، وهو المرجعية الدينية العليا لحزب "يهدوت هتوراه"، كان قد صرح أمام أعضاء الكنيست الإسرائيلي، بحسب ما نقل موقع "واللاه نيوز" العبري، "أنتم غير مدركين أنه لا لزوم لهذه المسيرة، وأنها على درجة عالية من الخطورة".

وقال مراسل صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عاميحاي أتالي: "دعونا نرى أتباع الصهيونية الدينية القوميين يسيرون وحدهم في يوم عادي، في مسار المظليين الذين احتلوا القدس، من مستشفى أوغوستا فيكتوريا وصولاً إلى الحرم القدسي الشريف، لا أحد منهم سيجرؤ على القيام بذلك، فالسير في هذا المسار حاملاً علم أسرائيل هو بلا شك انتحار مؤكد".

ورأى نير حسون، مراسل صحيفة هآرتس الإسرائيلية في القدس، أن "هذه السنة عادت القدس زمنياً إلى الوراء، منذ ساعات الصباح بدأ المشاركون في المسيرة ملء شوارع البلدة القديمة، وسجلت منظمات جبل الهيكل رقماً قياسياً لأعداد اليهود الذين اقتحموا الحرم القدسي الشريف بحماية الشرطة الإسرائيلية، حيث وصل عددهم إلى 2600، عدد منهم نجحوا في السجود وآخرون في رفع العلم وأداء الصلوات التلمودية، عشرات المجموعات من الشبان والفتية اليهود جالوا في أزقة البلدة القديمة وأطلقوا شعارات عنصرية وشتموا وأغلقوا الطرق أمام الفلسطينيين، كما غنى المحتفلون الأغنية الأكثر شعبية في أوساط القوميين "تذكرني من فضلك" وهي الأغنية المعروفة من "عرس الكراهية" والتي تنتهي بكلمات "ستنتقل عين من عيوني من فلسطين (بحسب المصدر التوراتي مي بلشتين) ليُمحى اسمهم، هذا هو التيار العام الذي ساد"، أما الأشد تطرفاً فقد أنشدوا خلال مرورهم من باب العمود أغاني تبعثهم على النشوة "الموت للعرب" و"النبي محمد مات" و"شعفاط تحترق"، "وشعب إسرائيل حي".

وتابع حسون: "المشاركون في المسيرة انطلقوا بأغنية "الموت للعرب أو لتحرق قريتكم"، واكتفى رجال الشرطة الإسرائيلية بالصراخ على الفتية اليهود، بينما قاموا باعتداءات وحشية بحق النساء والشابات والفتية والشبان الفلسطينيين واعتقالات وصلت إلى 50 شخصاً.

وأضاف حسون: "بين أعلام إسرائيل برزت في المسيرة ثلاثة أعلام أخرى، أعلام حزب الليكود، وأعلام عليها صورة لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو وأعلام حركة لاهافا العنصرية، حقيقة أن المسيرة لم تمر في باب العمود العام الماضي في الحي الإسلامي، اعتبرت هزيمة يجب التكفير عنها بمسيرة أكبر وأشد تطرفاً".

لكن أبرز المفارقات التي شهدتها مدينة القدس، كانت محاولات منظمي المسيرة إثبات يهودية المدينة المقدسة وإسرائيليتها من خلال إغراق المتظاهرين بالأعلام الإسرائيلية التي لا تعكس الواقع، حيث إن الإحصاءات الأخيرة التي نشترتها منظمة "عيرعاميم" الإسرائيلية، أكدت أن "الفلسطينيين العرب عادوا ليشكلوا ما نسبته 41 في المئة من عدد السكان، وأن السكان اليهود تراجعت نسبتهم من 69 في المئة إلى 59 في المئة، وهو ما يعتبر تفوقاً ديموغرافياً للفلسطينيين، على الرغم من كل المحاولات والجهود التي تبذلها الحكومة الإسرائيلية في زيادة الأحياء الاستيطانية في محيط القدس، والهدم، وعدم منح تراخيص بناء للفلسطينيين وتقييد نموّهم الطبيعي كسكان، إضافة إلى تغيير المعالم، وسلب الأملاك وإضفاء الطابع اليهودي على المدينة"، وأشارت المنظمة إلى أن ذلك يعود إلى أن اليهود ما زالوا يعتبرون القدس مدينة غير آمنة ما أقام فلسطينيون فيها وهم مقيمون.

على الصعيد السياسي، وعلى الرغم من أن التوقعات هذا العام كانت أن تقوم الفصائل الفلسطينية و"حركة حماس" بالرد على المسيرة بإطلاق القذائف الصاروخية باتجاه القدس والمستوطنات والمدن اليهودية لم يتكرر، إلا أن استعدادات القبة الحديدية والطيران الحربي الإسرائيلي كانت في حالة استنفار من الحدود مع لبنان شمالاً إلى غلاف غزة جنوباً، ودفع الجيش وكل الأجهزة الأمنية بكل قوتها لإجراء المسيرة وعدم تغيير مسارها، لم يقابله أي تحرك حقيقي أو ملموس، ربما لحسابات ومخاوف من أن المسيرة هي فخ لجر قطاع غزة إلى حرب مدمرة جديدة، أو لحسابات سياسية أعمق لدى "حركة حماس"، وأدى ذلك إلى إصابة معادلة القدس – غزة التي أرستها العام الماضي بنكسة جزئية بعد معركة "سيف القدس".

لكن ما لم تحسمه السياسة حسمته المعركة على الأرض في باب العمود، عندما ظهرت فجأة في السماء فوق المستوطنين طائرة مسيّرة حملت العلم الفلسطيني، لم يكن الأمر بسيطاً أو تافهاً، فقد تمكن مسيّروها من اختراق المنع على استخدام الطائرات المسيرة الصغيرة، والتملص من رقابة الشرطة الإسرائيلية التي تمنع مرور أي مسيرة فوق البلدة القديمة، التي قامت بعد ذلك بإطلاق النار عليها وإسقاطها، لكن العلم الفلسطيني حلق عالياً في فضاء المدينة المقدسة فوق بحر من الأعلام الإسرائيلية، وأشعر الفلسطينيين بالفخر والغبطة، وأعاد إليهم الروح بعد ما شهدوه من قمع وتكسير ووحشية.

لكن ما هي بالضبط تداعيات هذه المسيرة، وما هي البصمة التي ستتركها؟ من الواضح أنه سيكون هناك الكثير من الكراهية والعنصرية والتطرف بين آلاف المستوطنين، والكثير من التصميم على استعادة الحقوق السياسية والحرية والكرامة الوطنية والمساواة والاشمئزاز في قلوب الفلسطينيين الذين تعرضوا للكراهية والخوف والترهيب. صحيح أن المستوطنين رقصوا أمس لكن الغد ليس لهم، والمستقبل كفيل بالإجابة رغم أن المستقبل يبدو محبطاً وكئيباً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات