" حتى النَّارُ المُتَّقدة تُخلِّفُ رمادًا باردًا .. "


رانيا عبدالله 

" حتى النَّارُ المُتَّقدة تُخلِّفُ رمادًا باردًا..."
تشينوا أتشيبي


نَظَرَ إلى يدهِ التي تشبَّعَتْ أطرافُها بالدَّمِ المُنسَكبِ عليها
لم يُدرِك بأنَّ هذا قد يحوزُ رِضاهُ يومًا ما...
انتزعه الألمُ من نَشوته الساخطة، غيرَ مُعتادٍ على قوةٍ تضرِبُ فؤادهُ وتقتلعُ السلامَ من انغراسه...
ارتعدَتْ أوصالُهُ وأخذتْ تعبثُ بأنينه،بل وتُفاقِمُ جُرعاتِ تأوُّهه، نظرَ إلى ما حوله لكنَّ إدراكَهُ بأنَّه لا يُبصِر جعلت من الحقائقِ الماثلةِ أمامه مُدعاةً للسُّخرية فهي في نظره لا تُرى،حينها أُغمِضَت العيون،إذ زالَ الغشاءُ عن الأرواحِ المُجهَشةِ فأخذتْ تُغادرُ أرضها بعد قتالها البائس ونضالها المُتواصل، فأصبحتْ أجسادُهم وكأنَّها أعجازُ نخلٍ خاوية،افترشَ التُّرابَ بينهم وقالَ بهَمسٍ كاد أن يُفنى فلا وجودَ لصوتٍ يُضاهيه ضُمورًا بعد مجزرته:" أيُّ قارعةٍ أُقارِعُها؟"


لم يبدُ هذا كأيِّ وداعٍ أخير، فقد أجبرَتْ نفسها على نحيبٍ صامتْ، أخذتْ تتأمَّلُ تتويجَ القمرِ وارتقاءه فوق السحاب، ليغدو الليلُ غارقًا في ثمالةِ ظُلمته وأيضًا ستارًا يُخفي دمعها الشجيّ، وكأنَّما العالمَ يرنو تحتَ ضبابٍ جاثم....
فقد اختلَّ ذاك الميزانُ في دُنياه حيثُ أصبحَ الأمانُ يرجَحُ في كفَّته العُليا، والطُّغيانُ يبيتُ سُباتًا في الكفَّةِ السُّفلى...
أأراكَ في غيمتي هطولًا وصَيْبًا طيِّبًا!
أم حجارةً تتخذُ شكلَ الغيثِ في هبوطها!
وداعًا لبشريِّتكَ النقيَّة كوَهجِ الماسِ يوتو...
ستكونُ وحشًا بلعنةٍ مصقولة كزُجاجٍ بلوريٍّ أسودٍ فاسد..

وبينما تردَّدتْ في الرَّحيل وبَثِّ آخر الأنفاسِ في دُنيا الفناء،صعدتْ روحها إلى السماء، حينئذٍ تقدَّمَ ذاك الغُرابُ أبيضَ الرَّقبة الذي أظهرَ لمعانًا أرجوانيًا باهتًا نحو يده التي تمسَّكتْ بحفنةِ تُرابِ الأرض وكأنَّ إفلاتها سيوقعهُ في الهاوية، توهَّجَ طرفُ منقاره وأخذَ يضربُ به يدَ يوتو كما البابُ الموصَد، كان التحرُّكُ مستحيلًا،وبينما زادتْ حدَّةُ نقراته،لم يستطع عقلهُ مُجاراة البقاءِ يقظًا بفعلِ وَقعِ تلك النَّقراتِ المُتتالية وكأنَّها تطلبُ من روحه عدم التَّخلي،لكنَّهُ يشعرُ بألمٍ ينهَشُهُ من الداخل،وكأنَّ خلاياهُ تتمزَّقُ بشدَّة وقلبُهُ يَخفِقُ بفَيْضٍ زاخر، تأجَّجَ كَربُهُ وجسدُهُ يتلوَّى كما لو أنَّهُ بالفعلِ يحتضر! وهنا بدأَ الصُّراخَ فلَمْ يحتمل! لم يعد أيُّ شيءٍ ذا معالم، وأُسقِطَ بهَولٍ فارغ...

بعدئذٍ أُخمدَ رَوعُه وفقدَ هيجانه،فَعَلِمَ بأنَّ روحَهُ استقرَّتْ بينما الأُخرى دفعت الثَّمَنَ وغادرتْ،نَظَرَ إلى ذاك الرَّمادِ حيثُ وَقَفَ وأمعنْ، بدتْ أمامهُ مثل كُراتِ الثَّلجِ المُتَّسِخ فحَمَلَ بقبضتهِ كومَةً صغيرة، ليقول: " سيُصبحُ الموتُ أُمنيتهم، والعذابُ سعيرَهم.... فاطمئني "

_______•

التمسَ في غيابه جحيمًا، فقد تسارعتْ العقاربُ مُقتضيةً مرورَ الوقتِ بلمحة، وبينما يبوحُ الفجرُ بسرِّه الأخير، تآكَلَ ما تبقَّى مِنَ الأملِ في قلبه، وعندما أوشكَ الخروجَ من ذلك الطريق التفتَتْ عيناهُ في الأرجاء وقد استشعرَ قدومًا هائلًا، تشبَّثتْ قدماهُ بالأرضِ فجأة وقيَّدتْ جسده وكأنَّها تُجبرهُ ألَّا يُغادر، ارتفعَ صوتُ أحدهم وهو يسيرُ إليه قائلًا: "كاوادا.... لنْ أدَعَ فرارَكَ سهلًا،فأخوكَ يأبى الهلاكَ وأسقَطَ معشَرَ السَّحرة "
ردَّ بصوتٍ مُخمَليٍّ هادل: "أَوَتعتقدُ بأنَّ آل شينوي يرقدونَ في المقابرِ بانقيادٍ يسيرٍ لأعدائهم! "

حَسِبَ كاوادا الأمرَ بسهولةِ المَضغ لكنَّ الهواجسَ التي احتجزت فلكَ أفكاره ظلَّتْ تُلاحِقُ شخصه كما لو أنَّ انتماءها كان له فقط أو لعلَّ العقلَ اعتاد التعلُّق بما يخصُّ يوتو ،وبينما كان في مُحيط ارتيابه اندفعَ فيهِ إحساسُ العَدَم حيثُ أصبحَ ما حوله حائلًا كأسوارٍ تمنعُهُ من الإدراكِ بالرِّيحِ التي تعصِفُ بالمكان وتُبَعثِرُ أوراقَ الشجرِ وتُسقِطُها من القمة،فحدَّقَ بمُسبِّبِ هذه الفوضى ليقول صانعُها بحَزمٍ حَذِر:" سأكونُ أحمقًا لأترِكُكَ تتَّخِذُ الخطوةَ الأولى وأنا أُرجِّحُ كلامَ جيرالد.. إنَّ الإستراتيجية في لعب الشطرنج هو معرفة ما تفعلُه عندما لا يكونُ هناك ما يُمكِنْ فعله...فمِنَ الصَّعبِ ترويض يوتو في حالته "
و بينما تتجمَّعُ الأوراقُ خريفيَّةُ الهيئة مُكوِّنَةً حَلَقَةً أخذتْ تتقلَّصُ تدريجيًّا وتَحصُرهُ في أقطارٍ قَلَّ أطوالُها بسرعة، كانت المُقاومة في تلك اللحظة حركةً عابثة، فظهرتْ ابتسامتُه من وراء العاصفة،كاوادا : " أُفضِّلُ قَولًا آخر في هذا الشأنِ الحاسم.... "
ليُكمل: "آندي... نصَّبتَ نفسكَ مَلِكًا وتحسَبُ أنَّ عصرُكَ سيبدأُ بموتنا!"
وعلى حين غرَّة كان آندي يدنو من كاوادا، إذْ انسلَّ ظِلُّ كاوادا وحَوَى ظلَّ الآخر الذي ظَنَّ أنَّهُ حاز اليدَ العُليا، ثُمَّ قام بسحبِه إليه في حَلَقةٍ مُغلقة،كاوادا بصوته الأجش ذو بَحَّةٍ مُترَنِّحة : "تذكَّرْ قَولَ أنيس.... في الشطرنج كما في الموت.... بعد نهايةِ اللَّعب يوضَعُ الملكُ والعسكريُّ في صندوقٍ واحد...." أنهى جُملتَهُ بهمسِ الكلمة ورَهبةِ النَّظرة وبِرَفعِ اليد انطلَقت الشَّرارة التي بدأتْ شُعلةً مُلتهبة، لم يُترَك له فُسحَةً ليُعبِّرَ عن صدمته في ما ظَنَّهُ إسقاطًا مُزدوج لكنَّ كاوادا أَسرَعَ بتَحرُّكِه مُدمِجًا ظِلِّيهما معًا فجَعَلَ من آندي مرساةً للاتِّساع فزاد طولُ الظِلِّ مُتجاوزًا الحَلَقة فانسحَبَ كاوادا للخارجِ باستخدامه تقنيَّةً لم يتوقَّعها آندي...
كاوادا ساخرًا: " لكنَّ البيدقَ باستطاعته المُثولَ في الرُّقعةِ مُجددًا كقطعةٍ أُخرى إنْ أدَّى خطوةً ثامنة... "

آندي بسَخَط: " أمَّا الملك فقد ماتَ الشَّاه... "

_______•

كما لو كان الغيمُ يُشبهُ حلوى القُطنِ في أُفُقِ السماء، وتراقُصِ الهواءِ فيَبعَثُ رياحًا هائمة تُبدِّدُ الميادينَ من شوائِبِ الخَواء، سيطَرَت الجموعُ التي تساومَتْ وأجمعَتْ على إعدامٍ غيرَ مسبوق، ريثما الهُدنة الغير مُعلَنة ينتهي زَمَنُها ويبدأُ القتال، أخذَ الجميعُ مراكزهم فُرادى على أُهبة الاستعداد لإشعالِ الساحة وإراقةِ الدِّماء، تجلَّى ظهورَهُ بينهم إذْ بدا زعيمًا لرِباطهم، فقالَ بصوتٍ تأجَّجَ إزاءَ وابلٍ من الغضب: " لا نعتنقُ إلَّا يقينَ إخضاعِ الأعداء، وعدوُّنا أطاحَ بمَعشَرٍ منَّا أثناءَ تطويعِ لعنته فوَجَبَ قتلُه، لذا بحلولِ غُروبِ الشَّمسِ الجَليل وهبوطِ اللَّيلِ الحالِك سيكونُ اسمُ شينوي مُبادًا للأبد.... "
أَمعَنَ اللُّورد في عيونِ أتباعه أثناءَ لحظةِ الصَّمتِ المُهابة ليُتبِعَ نَظَرَهُ بكلماته التالية: " يوتو شينوي حامِلُ اللَّعنة، سائِغُ البلاء، مُعدَمُ الرَّأفة ومِعوَلُ هدمِ البَشَر إذْ تسنَّى لهُ افتعالَ المَجازر بحقِّهم لأنَّهم ببساطة كانوا في طريقه خلالِ فقدانه السَّيطرة!
وهذا لا يَقِلُّ عن أخيه كاوادا... جميعُنا نعلم أنَّهُ سيفعلُ أيَّ شيء لإنقاذ يوتو وإنْ كانَ هذا وحشًا فالآخَرُ شيطانٌ بهيئةِ إنسان، سنمحو الأُخوة شينوي الأوباش"

صرخوا جميعًا واهتزَّت الحناجر ترديدًا: " لنُطهِّرَ مدينتنا مِنَ الأُخوة شينوي....لنُسقِطَهُم، لنحرِقَهم وننثُرَ الرَّماد في أعماقِ البحار ... "

هَيمَنَ الشعورُ بالثِّقَل فقد طغى الهُدوءُ المُحكَم في أرجاء المكان، إذْ حَضَرَ مَنْ يرتقبونَ وجودَهُما، يسيرانِ جنبًا إلى جَنب مرفوعَيِّ الهامة واسعَيِّ الخُطى ومُتَمهِّلَيِّ السَّير بعَكسِ اقتحامِهِما العَجول...

لكنَّ القتالَ لم يكن بحاجة لإذنِ الإشراعِ به،فالأطرافُ تحرَّكتْ دون إدراكٍ حتى، أُسقِطَتْ بذلك الأقنعة التي كانت تأوي طفولة هؤلاء الأخوة بإحسانٍ مُطلَق تبيَّنَ أنَّهُ مُزيَّف فقد انقلبوا ضدَّهُم على إثرِ لعنةٍ أُلحِقَت بيوتو رُغمًا عنه فكانَ تضحيةً عليهم نحرُها لا تقديمَ العِرفانِ عليها، وبينما سَفَكَ كاوادا الكثير من الدِّماءِ بفعلِ انسلالِ سيفِهِ لؤلؤيَّ المِقبَض، حادِّ الطَّرَف، عريضَ الوَسَط، سماوِيَّ الهالة ومُضمِرَ الشرارة للفَتْكِ بمَنْ يُصيب، كان يوتو على قَدَمٍ وساق مِنَ الإطاحة بالبقيَّة، لكنَّ اعتراضَ اللُّورد لطريقه جعلَ نواياهُ للقتلِ تكتَسِحُ عقله، وترفُضُ انتقاءً آخر عدا القلب لإصابة أعدائه، اشتَمَلَ الضبابُ المُتصاعِد الأنحاءَ وكأنَّه يضَعُهُم داخِلَ إطار، حينئذٍ تشكَّلَتْ حدودٌ جدارية لا مرئية فأصبحت تلك البُقعة قفصًا يسجنُهم....
تراءى ليوتو وجهًا مألوفَ الملامح، فإذْ بهِ يقولُ باستغراب: " كاوادا! ماذا تفعل؟ "
لم يتغيَّر وَقعُ خُطاه، فقد تقدَّمَ دون توقُّفٍ نحوه، وبخَيلاءِ محياه الذي أظهَرَ نُكرانٍ لمعرفةِ مَنْ يُقابله باشَرَ بالهجومِ المُباغِتْ.. صَرَخَ يوتو أثناءَ ذلك قائلًا: "كاوادا.... لابُدَّ أنَّهم يتحكَّمونَ بك.. توقف"
احتدَّ النِّزالُ بينهما إذْ أخَذَ كاوادا بالارتقاءِ عاليًّا ثُمَّ السقوطَ بشراسةٍ بليغة، فقالَ بعد غرزِ سيفه بين أضلُعِ يوتو: " أنتَ بليَّةٌ جوفاء تقتاتُ على حُطامِ الأبرياء وتُتلِفُ النَّقاء و تُشوِّهُ الصَّفاء "
يوتو وقد نَزِفَ الدِّماءَ بشدَّة قائلًا بصعوبة: " هذا ليسَ أنت... أخي لن يقولَ ذلك أبدًا " وعند آخر كلماته أبعدَ الجسدَ الآخر بقوَّة مُسقِطًا نفسه لم يستطع مُقاومة الألم، وضعَ يده على صدره وهو يتحسَّسُ الجُرحَ ليقول: " إصابتي تُشفى ببُطء! ما الذي غَمسْتَ نصلكَ فيه؟.... "
اقترب كاوادا واضِعًا طرفَ السَّيفِ فوقَ كتفِ يوتو، تحرَّكَ سيفُه وفمه في آنٍ واحد: " مَصرَعُكَ على يدي "
وانغرسَ السَّيفُ بأكمله عاموديًّا في ذلك المَوضِع مُختَرِقًا جانب الصَّدر فانطَلَقَتْ صرخةُ يوتو بجَلجلةٍ فاقَتْ حدودَ جَلَدِهِ في التحمُّل، لم يكتفِ كاوادا بذلك فقط بل وكرَّر الحركة ذاتها على كتفهِ الآخر وكأنَّهُ يختَبِرُ فأرًا للتجارب.
حينها لَمَعَ طَرَفٌ في دائرةِ مُحيطهم وزادتْ درجةُ إضاءته، حجرُ أوبال الذي أشعَّ في باطِنِ الغُرابِ أبيضَ الرَّقَبة بشكلٍ جليٍّ من خلالِ جسدهِ زُجاجِيُّ الطَلعَة، هُلامِيُّ الهيئة وساكِنُ الحركة فقد حَطَّ على صخرَةٍ قريبة وكأنَّهُ بالفعل يقومُ بعمله،أدركَ يوتو أمرًا رُغمَ الألمِ الشنيع الذي أُلحِقَ به، ليقول بابتسامةٍ شَقَّتْ طريقها على زاوية فمه: " أستطيعُ إعدامُك الآن... "
وقفَ يوتو وهو يستندُ على ما حوله من صخور،إذ بدأتْ جروحه تلتئمُ بفعلِ طاقةِ الحجر التي طهَّرَتْ خلاياهُ من السُمِّ الشديد كَونهُ ضمنَ مجالِ امتدادِ هالةِ أوبال، فأكمل قائلًا: " لستَ كاوادا... كُنتَ موشِكًا على خداعي بالكامل "
تَقدَّمَ فأصبحَ أمامه مباشرة، تغيَّرتْ لون عينيه فباتَتْ تميلُ للَّونِ البُنيِّ الداكن إلى الأصفرِ الفاتح فقال: "كاوادا لا يملكُ ظِلًّا، فكيفَ يظهرُ ظِلُّكَ بهذا الوضوح!"
التفتَ يُطرِقُ رأسه نحو غُرابه: " مِنَ الجيِّدِ امتلاكي غُرابًا نَضَّاحًا بالشجاعةِ الجسورة والذكاءِ البهيّ "
ثُمَّ انقضَّ على خصمه بلا أيِّ تأخير ودون إعطاءهِ قُدرَةً على الرَّد...أَولَجَ يدهُ الصَّلْدة إلى القلبِ فورًا، واقتلَعَهُ إلى الخارج ورماهُ نحو الأرضِ بسَخَطٍ صارِخ، وما إنْ فَعَلَ ذلك حتى تجلَّتْ صورته الحقيقيَّة بسرعة فقد ظـهَرَ أنَّهُ نُسخةٌ من زعيمهم اللُّورد الذي سُرعانَ ما تلاشى وابتسامةٌ مُتهَكِّمة تُبانُ على وجهه القذر ليقول: " كان تظليلُكَ عنْ أخيكَ يستحقُّ عَناءَ التَّخطيط... "

صُعِقَ يوتو وارتجَفَ جسدُهُ فتحرَّكَ بذِعرٍ جارف، استفحَلَ الشَّرُّ فيه وطغى السَّوادُ على مُحيطه حين منعتْهُ حدود تلك الدائرة المنحوتة على أرضيةِ الساحة وبينما أخَذَ صُراخُهُ يزدادُ شراسةً ويعودُ بقوَّةٍ أكبر كُلَّما صَدَّتهُ تلكَ الجُدرانُ المَحجوبةِ عن الرؤية، إلى أنْ جاء اللُّورد مُمسِكًا برقبةِ كاوادا الذي بدا مُمَزَّقًا وفاقًدا للوَعي..

تأجَّجَتْ نيرانُ غضبه وهو يحاولُ الولوجَ إلى الخارج بشتَّى الطُّرُق، فتوالتْ عليه خيباتٌ عليلة،تقلُّباتٌ جسيمة اجتاحتْ أوعيتَهُ الدمويَّة، رَفَعَ رأسه بهدوء وطرفَتْ عيناه فأظهرَ اهتياجًا مُعتِمًا وغلظةً شائكة في أعماق وِجدانه،تراجَعَ الجميعُ إلى الخلف فقد استشعروا بهالةٍ داكنة تنبعثُ بشكلٍ موحش نحو أقدامهم وتشدُّهم بتأثيرها على ارتخاءِ حَذَرِهم، وبينما يُسحبونَ تدريجيًّا إليه،كان التحوُّرُ في عيونه يزدادُ حِدَّةً،ارتصفتْ رفوفٌ من جمادات بفعل مركز جذبه قام بتحويلها عنه وتوجيهها نحوهم،لكنَّهم قاموا برفع جدارٍ منيعٍ غَبِش،يتعلَّقونَ بأملِ إعاقةِ خط بصره، لكنَّه لم يُخفض يديه بعد! فإذْ بتلك الجداريات بالتحطُّمِ إلى فُتاتٍ بلحظة،بُهِتَ الذي رانَ على قلبه الفَزَع،وكأنَّ تَسارُعِ نبضاته بشكلٍ صارخ قد أصبحَ أمرًا رتيبًا لضحايا لعنة يوتو التي شَرَعتْ بإكتساحِ جسده.
بوشاحٍ رماديِّ اللَّون أمالَ رأسه قائلًا موجِّهًا كلامه إلى اللُّورد: "ممَّا أُبصِرُهُ في هذا البلاء فدفنُكَ مسألةُ بضعَ دقائقَ فقط"
دُهِشَ من وجوده إلى جانبه قائلًا: " أوبيتو! ... "
هزَّ كتفيه باستهزاء مُجيبًا على سؤاله: "حسنًا، ليسَ وكأنَّ استفزازهُ إلى هذا الحد لم يكن ضمنَ الخطة "
التفتَت عينا أوبيتو نحو يوتو الذي ينبثقُ من جسده ظلامٌ قاتم،مُستمِّدًا من غضبه عَونًا لإيقاظِ جميعِ غرائزه المُستميتة للقتل، ثمَّ عادتْ إلى مُحدِّثه قائلًا:"ما نيَّتُكَ بمنهجةِ خُطةٍ تقتضي موتك! "
بابتسامةٍ عابثة: " أُفضِّلُ وَقعَ ما نراه على ما نسمعه... "
حدَّقَ به لوهلة وأكمل: "أقترحُ أنْ تُشاهدَ المسرحية"
أوبيتو بهمسٍ خافتْ مُتنهدًا وهو يَهِمُّ بالذهاب: "أُشاهدها لكن... لا أرى الخيرَ فيها"

_______•

صَدَعَت السماءُ بانقسامِ سُحُبِها،وارتوَت الأعشابُ كفايتها لقاءَ أمطارٍ أُودِعَت في الأرضِ عُنوةً كانت قد أحجمت عن ملئ ترابها بمياهٍ جديدة، فها هيَ ترى الوَدْقَ يعصِفُ من خلالِ نافذةٍ زخرَتْ حوافُّها بالتُّراثِ الأندلسيِّ العتيق
أثناءَ عويلِ روحها وكُرهًا بسُكونِ ما حولها، تنأى في غُرفةٍ سقيمة،لا حَولَ لها فهي طريحة تتطلَّعُ لحدوثِ مُعجزةٍ من نوعٍ ما،وفجأةً قَفَزَتْ إلى أوصالها قُشعريرةٌ مريرة أجبرتها على التحرُّكِ سريعًا،كان السِّحرُ المُتدفِّقُ في جسدها يتناقصُ تدريجيًّا وكأنَّهُ يُستَنزَف،ضغطتْ على نفسها لتزدادَ قوتها فإذْ بها تُفاجِئُ زائرها بضَربةٍ وجَّهَتْ فيها كُلَّ ما تملك من طاقة،لكن على ما بدا لها وجهه فقد تلقَّى الضربة مُتعمِّدًا ذلك ليقول: "أرجو أن تُخَفِّفَ هذه الضربة من غضبكِ قليلًا كاتيا "
ردَّتْ بصوتٍ حاد: " فلتذهب إلى الجحيمِ أيُّها الجاحد "
منعتهُ من الدخول أكثر باعتراضها طريقه فألقتْ بسؤالها عليه دون أن يرفَّ جفنها: "لمَ أتيت؟... أأَردتَ التأكُّدَ أنَّ العُصفورةَ لم تغادرْ قفصها؟.... " أكملتْ بِبُغضٍ صريح: "أم تُريدُ إرسالَ رأسي إلى حليفك لتستجدي إعجابه؟ ذاكَ المقيتُ الذي يُعذِّبُ تلاميذكَ بلذَّةٍ جنونية! ستُفضِّلهُ على تلميذةٍ مثلي"
تقدَّمَ نحوها قائلًا: "لقد فُقتِ تصوُّري،فوجودُ الغُرابِِ هناك رُغمَ قتلي إياه... قد أدهشني بالفعل،وارتأيتُ أنَّهُ إسقاطٌ وَهميٌّ لساحرٍ بارع ينقِلُ سحره لمكانٍ آخر "
أكملَ مواصلًا التقدُّم نحو لوحةٍ زيتيَّةٍ مُعلَّقةً في إحدى الزوايا: "وما يجعلُ الساحر يقومُ بذلك هو عدم قدرته على مزاولةِ سحره بشكلٍ مباشر"
قالتْ بسُخرية: "ويَصدُفُ أنَّكَ تعرفُ ساحرةً قُيِّدَ سحرها في هذه الغرفة... رائع، ما التالي في تحليلاتك؟"
ردَّ بصوتٍ جاد مُلتفتًا إليها: "رَجوتُ ألَّا يكونَ صحيحًا ويظلَّ تخمينًا عابثًا، لكنَّ جميعَ السِّهامِ تُشيرُ إلى نفسِ الهدف،كاتيا إنَّهُ ليسَ تقييدًا بل جعلَكِ بمثابةِ بطارية لسحره"
ردَّتْ بجَفاءٍ بارد: "أتعلم! لم أَعُد أرى فيكَ السَّلامَ حيثُ نَصَبتَهُ في قلبي بل وتبدَّدَ ذاك‌ الشُّعورُ بالأمانِ مِنْ حولك، لن أستطيعَ منحَكَ ما لا تستحقُّه "

أوبيتو وقد استفحلَ الضعفُ في صوته وامتلأهُ القُنوط
الذي لم يستطع كبحه: "يبدو أنَّ الحليفَ قد غَيَّرَ مكان تصويبه، بل ربَّما كانَ قاصدًا إياهُ منذُ البداية،إنَّهُ يستنزفُ سحرَكِ بمُضيِّ الوقت"
أمسكَ يديها وشدَّ عليهما فبدأ بترديدِ بضعَ كلماتٍ من تعاويذِ الفَصل قائلًا في أثناءِ تنفيذها:" قد يُقتَلُ كاوادا على يديِّ يوتو"

فكَّرتْ كاتيا بشيءٍ ما قائلة: " إنْ فَقَدَ سيطرتَهُ فيتعيَّنُ عليكَ محاولةِ كسبِ بعض الوقت "
ابتسمَ أوبيتو قائلًا : " أُرجِّحُ وجودَ حَلٍّ ما! "
كاتيا وقد أَخرجتْ كتابًا ما: " سنلجأُ إلى نظريةٍ تقتنصُ الفُرَصَ الضئيلة "
أوبيتو: "حسنًا، أُفضِّلُ رُجحانَ الفُرَصِ على انعدامها... لكنْ... هل ستستطيعين فعلها لوحدك؟"
كاتيا بابتسامة: " لا تَحسَبَ أنَّني بقيتُ هنا لا أفعلُ شيئًا، فأنا لا أُجيدُ الوقوفَ جانبًا "
استغربَ من كلماتها ليتفاجأَ من ذاك الطيفِ الذي حَضَر لتقول كاتيا: "لقد استغرقَ وقتًا لكنَّهُ لن يذهبَ عبثًا"
وَقَفَ أوبيتو مذهولًا ليقول: "كيفَ عادتْ لورا دون أنْ يموتَ يوتو؟"
لورا: "تعويذةُ الرَّبطِ بين حياتهِ وموتي ليستْ بقوَّةِ تلك المادة، فعودتي طيفًا لم يؤَثِّر عليهِ بحجمِ النَّقير"
أوبيتو على عَجَل وهو يخرجُ على الفَور: " هذا لا يبدو جيدًا... سأحاولُ كَبحَ جِماحِه ريثما تنتهونَ من عملكم "
______•

الطامَّةُ الكُبرى أنْ يُصبِحَ الأنينُ وَهْجًا لا ينطفئ!
تداعى في كونِهِ كُلُّ الثوابتِ وتوابِعِها المُتغيِّرة،وكأنَّ العذابَ كان مُتحيِّزًا ليضربَ بجسدهِ مُجددًا ودونَ انقطاع،كان الوَقتُ قد توَقَّف في تلك الحَلَقَة حيثُ انزوى الجميعُ عنهما،لم يستبق أيٌّ منهُما الأحداث،فكانتْ تحرُّكاتِهما مدروسةً بدقَّة،وبينما دوافِعُ القتلِ تتحاشى مُغادرةَ عروقِهِ تبدَّلتِ الأوضاعُ بكثرة حين أَخَذَ غِشاءُ هالتِهِ بالتَّضخُّمِ بشكلٍ لا ينحدر،تضاءلت قُدرةُ اللُّورد على تحمُّلِ حِدَّةِ الاشتباك بيوتو ليَندفِعَ بقوَّة بعيدًا قائلًا والدَّمُ يخرُجُ من فمه: "أَمقُتُ الشعورَ بالضآلةِ عند رؤيةِ كُلَّ هذه العَظَمة... لكنَّها قريبًا ستكونُ مُلكًا لي"
انتَصَبَ يوتو موَجِّهًا عيناهُ التي فقدَتْ تَمَكُّنِها مِنَ الرُّؤية لكنَّ اللُّورد أوقفهُ بقوله: "كاوادا ساحرٌ قوي فكيف ينتهي به الحالُ هكذا؟أليسَ عليكَ التفكيرُ في ذلك؟"
هدوءُ يوتو لم يكن مُتَو‌قَّعًا فأكملَ وهو يُراقبُ ردَّةَ فعله: "لقد سحبناهُ لفَخٍ جيِّد باستخدامِ سحرهِ الأسود في الظِّلال، مَنْ كان يتَخيَّلُ سقوطَهُ في قُوَّتِهِ النادرة، أليسَ كذلك!"
تَجَلجَلَ الغَضَبُ فكانَ شديدُ الوَطأة، مُتَفاقِمَ النَّزعة،مُمَهِّدَ الخُطوة إلى جحيمٍ مُتأجِّجَ النَّار ومُتأصِّلَ العذاب، صَدَحَ في الأرجاءِ صوتٌ طنَّتْ لهُ الآذان، وبينما يوتو يَقِفُ مُعذِّبًا إياهم جاعلًا في تزايُدِ الذبذباتِ رنينًا مُقَعقِعًا في رؤوسهم...

_______•

أكملتْ بتنهُّد: "مَنْ كان يظنُّ أنَّنا سنعملُ بنظريةِ البجعة السوداء التي كانت آخر درسٍ لنا قبل حدوث كُلِّ هذا!"
نظرَتْ إليها بعد أنْ توقَّفَتْ يداها عن التَّقليبِ بينَ الصفحاتِ لتقول لورا: "أهذا كتابُ فيرا روبين، الممنوعُ مِنَ التَّداولِ بين السَّحرة؟"
هزَّتْ رأسها بقولها: "كلَّا...فقد منعوا انتشارَ النُّسَخ.... لكنَّهم لم يذكروا أيَّ شيءٍ عن الكتابِ الأصليّ"
وضعتْ يدها على رأس كاتيا لتقول: "مِنَ الجيِّدِ أنَّ قوانينهم لا تُقيِّدُكِ، فالوجودُ ليسَ محصورًا بما نستطيعُ رؤيته"
نظرتْ إليها مباشرة: "ما يُثقِلُ روحَ يوتو ليسَ سحرًا أسود... بل مادةً مُظلمة"
تحرَّكتْ الصفحاتُ أمامها لتتوقَّفَ تقلُّباتها في لحظة، أشارتْ كاتيا نحو صورةٍ تُظهِرُ سوادًا غائمًا قائلة: "لقد رأيتُ تلكَ الانبعاجاتِ في نَسيجِ هالته،لقد كانتْ مِثلَ..."
قاطعتها لورا بقولها:" تقعُّرٍ لمئاتٍ مِنْ كُراتِ البولينغ على فراشٍ طريٍّ ببُعدٍ ليسَ ثابتًا بينهم"
أطرقتْ رأسها لتُكمل: " بالطبعِ لم يكن ذلكَ الدَّليلَ الوحيد... فقد درستُ لعنته مُذْ أضحَتْ تتوغَّلُ فيه...
ساعدني كاوادا على ذلك.. واقتربتُ كثيرًا لكنْ"
لورا حاثَّةً إياها على إكمالِ جُملَتِها: "لكن!"
"ظننتُ أنَّ اللُّورد سيُساعدني فأخبرتُه بهذا الأمر، لكنَّ الأمرَ آلَ إلى هذه المعركة، فأرادَ اللُّورد قتلَ يوتو قبل أنْ تتوغَّلَ المادة فيه فيجلبُ الهلاك"
تردَّدتْ لورا في قولها: "لكنَّهُ مَنْ اقترحَ عليَّ إلقاءِ تلك التعويذة لإنقاذِ يوتو!"
كاتيا بلا أيِّ تأخُّر، توجَّهتْ أناملُها إلى صفحَةٍ ما لتقول: "إنَّ غايَتَهُ ليست الإنقاذ...." لورا بعد النَّظر في عينيِّ كاتيا بهَلَع: "بل الإستحواذ!!"
أكملت بقولها: "تزعَمُ فيرا أنَّ المادة المُظلِمة هي جُسيماتٍ دونَ الذريَّة يُطلَقُ عليها اسمَ الأكسيونات....
نستطيعُ التأثيرَ عليها بفعلِ الجاذبية فكلَّما زادت أحدثتْ تشوُّهًا فيها يجعلُها تنحني عن مسارها"
كاتيا باضطرابٍ شديد: "سيستَغِلُّ اللُّورد هذا الانحناءَ لإعادةِ توجيههِ نَحوَه"
أبعدتْ لورا يدها عن ذاك الشيء الذي أَخَذَ يتشكَّلُ قائلة: "حسنًا، لقد انتهيت حانَ دورُكِ.. علينا الإسراعُ في صُنعِه قبل وقوعِ الكارثة فالأمرُ الوحيد الذي قد يجعلُها تخرجُ من جسد يوتو..."
كاتيا وهي تُمسِكُ بما تركته لورا قائلة: "صدمة شديدة مثلَ أن يقتُلَ أخاه..... و‌قتُكِ أوشكَ على النَّفاد"
لورا وهي تختفي تدريجيًّا: "كمُعلِّمةٍ للسِّحر كان الاعتناءُ بكم بهجةً لي، كاتيا افعلي ما بوسعك لأجلهما..."
ارتسَمتْ ابتسامةٌ دافئة على وجه لورا لتقول كاتيا: "بالتأكيد، فَهُم أصدقائي"
______•
باتَتْ وقائعُ الأمورِ آخذةً تَضرِبُ عَرَضَ الحائط،طوَّقَ بسلاسلٍ فولاذية عُنقَ اللُّورد،احتدَّ القتالُ مرةً أُخرى، لكنَّ جسدًا من خلفه أوقفَ تَمَدُّدَ الطاقة لبُرهة، ثُمَّ عادَ مُكمِلًا الضغطَ على تلك العُنُق إذ قاومَ صاحبها باستخدامِ سحره ليقول لذاك الشخص الذي ظهر: "أَلَكَ يدٌ في انخفاضِ قوَّتي!"
"نفَّذتُ تعويذةً مُعاكسة لتحريرها من استنزافكَ الشَّنيعِ لسحرها، لذا إجابتي نعم" ثُمَّ أَلقى بزنزانةٍ وهمية حولَ يوتو والتي لم تتحمَّلَ حَبسَهُ فيها ليقول بعد انفجارها: "كيفَ أَصبَحَ هكذا؟"
ابتسمَ اللُّورد بجنون قائلًا: "رُبَّما لأنَّني أخبرته مَنْ قدَّمَ اقتراحًا لمُعلِّمته لورا بالمَوتِ لإنقاذه"
أوبيتو بدهشة: "أنت!"
في هذا القتال ومُنذُ بدايَتِه لم يُغمَد أيُّ سيف، كانت الأطرافُ جميعها لا تؤتى فُرصةً لشَهقِ الأنفاس، ارتَعَدَ العديدُ منهم لرؤيةِ يوتو بهذا الحال، فتركوا كاوادا كما أخبرهم اللُّورد وابتعدوا عن المكان، والآن ليسَ هناك ما يَمنعُ يوتو من أخذ أخيه والذهاب، لكنَّ الأمرَ لم يَكُن بهذه السُّهولة فتلك الحَلَقة مُعَدَّة بحيثُ لا تُخرِجُ مَنْ بداخلها إلَّا فاقدًا حياتَه وبينما أدرَكَ يوتو ذلك قرَّرَ سَحبَ اللُّوردِ إليه وحين نجَحَ بذلك لم يهدأ اضطرابُه...
راقَبَ أوبيتو الوَضعَ موَجِّهًا كلامه إلى ذلك الشاب الذي استحكَمَتْ عليهِ قوةٌ عُظمى: "يوتو... عليكَ قتلُ اللُّورد فورًا..."
اللُّورد بصدمة قائلًا: "ماذا؟ لن أستطيعَ أخذَ قوَّته بما أصبحَ لديَّ بفضلِ تحريرِكَ لكاتيا"
ابتسَمَ أوبيتو قائلًا: "ولمَ سأَد‌عُكَ تستحوذها لنفسك؟"
انقضَّ يوتو نحوَ اللُّوردِ جاعِلًا الهالةَ تتشكَّلُ بهيئةِ قبضةٍ انحسرَ جسدُ اللُّوردِ فيها تحرَّقَ يوتو لقتلِه بشدَّة،فزادَ من إحاطتهِ بنيرانٍ صدَّتهُ عن أيِّ دِفاع،أحسَّ اللُّورد باقترابِ أَجَلِه قائلًا: "لا تفعل...إنْ قتلتني فسيموتُ كاوادا معي"
ارتختْ يدا يوتو ليقول أوبيتو: "لا تقلق يوتو، فقد أَبطلتُ سِحرَ ر‌بطِ أرواحهما معًا... لن يمسَّ كاوادا أيُّ ضَرَر"
تردَّدَ يوتو بقول اللُّورد: "لكنَّني لا أزالُ أشعرُ به... يوتو صدِّقني"
أَصرَّ أوبيتو عليه: "أكاذيب! يوتو إنْ أخفَقتَ في قَتلِه فسيتسبَّبُ بموت أخيك"
هزَّ اللُّورد رأسه بإنكار ليُحاولَ التَّملُّصَ من تلك القبضة، لكنَّ يوتو لم يتحرَّك بسبب الشكِّ الذي تسلَّلَ إلى قلبه، فإذْ بأوبيتو يظهرُ أمامه مُمسِكًا بجسد كاوادا من خلال سحره وبيدهِ سيفُه ليقول: "يبدو أنَّكَ لا تُصدِّقُ مُعلِّمَك... لقد أطَلتَ الأمر وأنا على عجلة بسبب كاتيا الساذجة.. لقول الحقِّ فقد استفدتُ منها كثيرًا، إنَّها طالبة ذكيَّة"
سَقَطَ اللُّوردُ من قبضةٍ مُحكَمة فقد توجَّهَ تركيزُ يوتو على أوبيتو، حاولَ الخروج من تلك الحَلَقة لكنْ مُجددًا بلا فائدة، أوبيتو: "يبدو عليكَ اليأس.. لذا سأُسرعُ في إعدامه" صَدَحَ صوتُ اختراقِ السيفِ لجسد كاوادا،فُتِحَتْ عيناهُ مرَّةً واحدة تنظرُ مُباشرة إلى يوتو أخيهِ الصَّغير وابتسمتا ثُمَّ أُغلِقا للأبد!
مشهدٌ صامت يدوي في المكان، وقوفُ الجماداتِ في كُلِّ الأماكن، الصخورُ فُتِّتَتْ، تجمَّعَتْ، ثُمَّ انطلَقَتْ تُرشَقُ كشُهُبٍ ناريَّة،وَتنزلِقُ مِنَ الجبالِ كالحِمَمِ البُركانيَّة، كان الفَقدُ عظيمًا لأنَّ امتلاكَهُ كان أمرًا بديعًا، لم يأتِهِ أيُّ مشهد في الذاكرة فقد حُبِسَتْ فيها تلكَ النَّظرة الأخيرة، فبينما هو لا يُبصِرُ شيئًا بل يشعرُ بالهالةِ من حوله ويُميِّزُها فقد أَبصَرَ نظرَتَه....
أيُشعِلُ هذا قلبَه! كان أوبيتو ينتظرُ فقدانَهُ السيطرة بشكلٍ لا يُطاق كي يتسنَّى لتلك المادة المُظلمة النَّفاذَ منهُ والإفلات...
وحينَ أصبحَ ما أرادهُ حقيقةً للعُيَّان، تراجعَ وفي قلبه الرَّجفة،فقد احتواهُ رُعبًا، تردَّدتْ يدهُ وهي ترتجف نحو مصدر تلك الطاقة، لكنَّ ذاك التدخُّل في تلك الثانية قد أَحدَثَ شَرخًا مُشَتَّتًا انفصلَ في اتَّجاهاتٍ مختلفة، كانتْ كاتيا تقتربُ تدريجيًّا من يوتو رُغمَ كُلِّ الجُهدِ الذي وضعته في سحرها، وجَّهَ يوتو ضربته نحو الجميع،وقبل اصطدامها بأحد الأعمدة الذي انهارَ فوقها، فعَّلتْ تعويذة الحماية حول جسدها،وأسرَعتْ نحو يوتو في محاولةٍ أخرى، بينما كان تقدُّمها في جانبٍ كان أوبيتو يتَّجه نحوها مُعيقًا طريقها، لم تستغرب الأمرَ كثيرًا فالغدرُ كانَ دومًا الأقربَ إليهم، فهذا حالُ مَنْ كانَ في مَلجأ طوالَ حياته، دخلا في اشتباكٍ أرادت الخروجَ منه بأيِّ طريقة، كانَ أملها يتلاشى، والطَّريقُ ينهدم، فما وجدتْ إلَّا خُطةً بديلة، أحاطتْ بهالةٍ شديدةَ الزُّرقَة جسد كاوادا لتقول: "آسفة كاوادا، سأستعيرُ سحرُكَ قبلَ أنْ يُدفَنَ في روحك الصاعدة"
كَبُرَ هَولُ ما تحملُهُ في داخلها، جاعلةً من كاوادا وِعاءَ طاقةٍ أخرى، أدرَكَ أوبيتو ما تحاولُ فعله ليقول: "تُخطِّطينَ لسَلبِ قُدرتي ووضعها فيه!"
كاتيا دونَ أنْ تنبِسَ بكلمة واحدة، التفتَتْ نحوَ يوتو الذي كان ينظرُ نحو كاوادا،لكنَّ أوبيتو أصبحَ أمامها ليقول: "فقدتِ تركيزك"
أبعدتها العاصفة التي أَحدثها أوبيتو،لكنَّها تمسَّكتْ بسيفِهِ الذي استُلَّ نحوها،أخذت تُردِّد بضعَ كلمات حيثُ أصبحت تُنطَقُ بصعوبة لانغراسِ النِّصلِ في داخلها ليقول: "أرى أنَّكِ نجحتِ في تكوين قناعِ تايسكو،لم أظُنَّ أنَّ لورا ستكونُ مفيدةً هكذا"
ازدادت الهالة المحيطة بكاوادا لتقول كاتيا: "إنَّ النِّطاقَ يضيق" ابتسمت قائلة: "لكنَّني سأستغلُّ فرصةً سانحة"
اقتربت من أوبيتو لينغرسَ السيفُ بالكاملِ فيها، ثُمَّ أمسكت برأسه لتنفيذ ما أرادت رُغمَ محاولاته بالإفلاتِ
منها،شَرَعَتْ قوَّتُها بالتَّداعي وازدادَ حجمُ الثِّقَلِ فوقَ روحها......
حينها كانَ يوتو خارجَ الحَلَقة مُتوجِّهًا نحوهما، صُدِمَتْ كاتيا لتقول: "كيفَ تخطَّى حدودها دونَ حدوثِ أيِّ شيءٍ له؟"
كان سحرُ أوبيتو ينتقل بالفعلِ إلى كاوادا في تلك الأثناء، فاستغلَّ تشتُّتِ انتباهها، أفلتَ بصعوبة بينما يوتو يتَّجهُ نحوها، ارتطمَتْ كاتيا بالأرضِ وقبلما وقوفها على قدميها مُجددًا كانت روحُها تنازِعُ البقاءَ بجُهد،اقتربَ يوتو من كاوادا، وجَّهتْ آخر أنفاسها لتنشيطِ آخر ذراتِ سحر كاوادا مع خاصَّتها، استيقظ كاوادا لحظيًّا بشكلٍ واهن، صرخت كاتيا قائلة: "كاوادا، هاكَ القناع.. أنقِذ أخاكَ من تلك المادة"
انتزَعَ كاوادا كُلَّ ما يملكُ من قوَّة أودعتها كاتيا فيه، موجِّهًا ضربتَهُ نحو يوتو، فسَقَطَ الآخرُ أرضًا مُقاوِمًا إيَّاه ليقول كاوادا بلَهثِ الأنفاس: " لا تدَعْ موتي يذهبُ أدراجَ الرِّياح.... كاتيا بحاجةٍ إليك "
تصارَعَ الإثنان دونَ توقُّف، لكنَّ اقترابَ أوبيتو من كاوادا جعل يوتو يُرخي حذره اتِّجاهِ كاوادا، وَضَعَ القناعَ عليه مُجبرًا وعيَهُ على أخذِ راحةٍ من عبئٍ مُهلِك...
هدأ كُلُّ ما حولهم وتراخَتْ الجمادات لتسقُطَ كهَطلِ المطر، اضطرَّ أوبيتو للإحتماءِ بهروبٍ هَلِعْ فقد نَفَدَ سِحرُه بسبب استمرار سحر كاتيا بسَلبِ خاصَّته ووضعها في كاوادا الذي ذهَبَ في سُباتٍ سرمَديُّ الزَّمَن، أَبَدَ العُمُر...
وبينما تلفِظُ كاتيا آخر أنفاسها،استخدَمَتْ آخر قطرةٍ من قوتها لكتابةِ رسالةٍ جاعلةً ذاك الغُرابُ الشَّبيهُ بالأصليِّ المقتول، لتقول: "سيُساعدهُ قناعُ تايسكو بكَبتِ قِواهُ ولعنتهُ البائسة، لكنَّهُ لن يفعلَ ذلك مع فاجِعَته حين يستيقظ...."
كانَ المكانُ فوضى يضمُّ الأسى، فالغَمامُ أنزَلَ ظلالَهُ فوقَ أجسادهم الثلاثة، يوتو، كاوادا وكاتيا...
يا لهُ من يومٍ طويل كدَهرٍِ قَصُرَ وأصبَحَ فيه!
____•

كانَ الصَّمتُ يعمُّ المكان لتقول : "وانتهتْ بذلك المعركة التي خَسِرَ فيها الجميع"
نَظَرَ الطُّلابُ إلى بعضهم باستغراب ليقولَ أحدهم: "يوتو ومُعلِّمه أوبيتو بقيا على قيد الحياة، فماذا فعل يوتو بعد استيقاظه ومعرفته بما جرى؟"
ارتفَعَ صوتٌ آخر: "ماذا عن تلك التعاويذ، هل سنتعلُّمها أيضًا؟
بدأ الجميعُ بإلقاءِ أسئلتهم، بينما حدَّقتْ بالسَّماءِ من خلالِ النافذة لتهمس:" كانَ يومًا بمثلِ هذا المشهد.. "
غَمَّ وَجهُها موجِّهة كلامها إليهم: "يبدو أنَّنا سنعلمُ قريبًا....."



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات