نحو سن الأربعين


بقلم: م. أنس معابرة

في لحظة عابرة من لحظات حياتي كنت أقف أمام المرآة من أجل تنظيف أسناني، فجأة وبدون سابق إنذار لمحت في المرآة بعض الشعيرات البيضاء التي تسللت الى جوانب رأسي وصدغيّ، إعتقدت في البداية أنه ربما تأثير الضوء ولمعانه في المرآة، ولكن بعد التمحيص والتدقيق تأكدت أنها شعرات بيضاء، بل كلما ما دققت النظر؛ كلما وجدت المزيد والمزيد منها بين سواد الشعر الغالب.
بدأت في تقليب صفحات حياتي، والأحداث التي مرت بي خلال السنوات الماضية، وبعد أن تأكدت من تاريخ اليوم وبعض العمليات الحسابية وجدت أنني أخطو بخطوات ثابتة نحو سن الأربعين.
قبل عشرين عاماً، وصلتني رسالة بريدية من الصديق فهمي المومني من عجلون، وقتها كان للرسالة البريدية طعم ولون ورائحة، وقبل أن تتحول الى إيميل يصل الى الهاتف في نفس لحظة إرساله، وبينما كانت المشاعر والأحاسيس تفيض من ورق الرسائل، تحولت الى مجموعة أحرف إلكترونية خالية من كل شيء، المهم انه ذكر خلال رسالته أنه بلغ عمره ربع قرن من الزمان، واليوم بما أنني أخطو نحو الأربعين فهذا يعني أنني قد تعديت ثلث القرن بقليل.
وفي خضم حساباتي لعمري الذي طار من بين يدي دون أن أحس فيه، بدأت بمقارنة نفسي الآن بما كنت عليه حين إستلمت الرسالة البريدية من صديقي القديم، وصحيح أنني الآن في أشد العمر إلا أن الإختلافات كانت كبيرة ومفاجئة لي.
في ذلك الوقت كنت أمارس مختلف أنواع الرياضات، كالركض والمشي ولعب كرة القدم وكرة السلة وغيرها، وكنت أقضي الساعات الطوال في ممارستها دون كلل أو ملل كأنني في دورة للصاعقة، حتى جهاز الركض الذي أملكه في منزلي كانت ترتفع حرارته من طول المدة والسرعات التي أرهقه بها، أما اليوم فلقد أصبحت أتجنب أن أمر من امامه حتى لا أرى نظرة الإستهزاء في لوحته الإلكترونية المطفأة والغبار المتراكم فوقه، بل حتى أنني قد وضعته بداخل غرفة خاصة مع الإحتفاظ بالباب مغلق لمزيد من التجنب والحذر.
كنت في صباي أسكن في منزل يتوسط 86 درجة، كنت أصعدها ثلاثاً ثلاثاً، وأهبطها أربعاً أربعاً، أما اليوم فعند وصولي للعمل الذي يتطلب مني صعود الدرج بمقدار طابق واحد فقط كوني أتجنب المصعد لمعاناتي من رهاب الأماكن الضيقة، ولثقتي الضعيفة بوسائل التكنولوجيا الحديثة، فإنني أحاول بكل ما أوتيت من قوة أن أصل الى الطابق الثاني دون أن أتوقف للإستراحة، أو دون الإتكاء على الدربزين المجاور له أو على إحدى ركبتيّ.
الأولاد في الحي الذين كنت بالأمس العب معهم كرة القدم لساعات طويلة تبدلوا، وأصبح القادمون الجدد ينادونني ب "عمو"، وينتظرون مروري قبل إستئناف اللعب.
أما عند مشاهدتي لمباريات كرة القدم فلا أتعرف الى أي من اللاعبين الجدد الذين يتمتعون بالمواهب، فلقد توقف تفكيري عند رونالدو الظاهرة ورونالدينو وبيكهام، وقتها كان هناك من اللاعبين الصاعدين كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي، وتفاجأت حين أخبرني ابني الجالس الى جواري أنهما كلاهما قد قاربا على التقاعد الآن، ولم يعد لهم ذلك التأثير في الملعب.
في الماضي كنت أغيب عن المنزل طوال النهار ولجزء من الليل، بين المدرسة واللعب مع الجيران، وبعدها في الجامعة والعمل، وبعد كل ساعات التعب تلك؛ لا بد أن أجد مكاناً مناسباً للخروج مساءً والسهر، اليوم مكاني المفضل هو المنزل، وتتراوح نزهاتي بين غرفة النوم وغرفة الجلوس أمام التلفاز أو الحديقة الخلفية فقط، لدرجة أن مكاني في كل غرفة أصبح محجوزاً ومحدداً لي فقط، ولا يجرؤ أحد على الجلوس فيه.
أما بالنسبة لبرامج الأطفال المعروضة على التلفاز؛ فكل ما أتذكره هو الكابتن ماجد والكابتن رابح وسنان وسالي ومخلص صديق الحيوان وتوم سوير، ومسرحية مدرسة المشاغبين في الأعياد. اليوم أصبحت كل برامج الأطفال تتحدث عن صراع الأكوان والغزو الفضائي والحروب والعنف، بالإضافة الى إستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة كالدرون والطائرات النفاثة التي سمعت عنها خلال مرحلة الدراسة الجامعية.
لم أكن ألتفت في الماضي لأي محطة إخبارية على التلفاز، أو لقراءة أي خبر من الصحف، أما اليوم فأحفظ عن ظهر قلب أرقام كافة المحطات الإخبارية على التلفاز، وأتابع العديد من البرامج على الراديو وأعرف مواعيدها جيداً، وما أن أنتهي من الصحيفة الورقية التي ما زلت أقراءها حتى تصبح غير صالحة للقراءة من كثرة التقليب مع وضع ملاحظاتي عليها، وأضحيت اليوم على معرفة تامة بكافة الأخبار المحلية والدولية، لدرجة أنني أجد أنه من المهم أن أكون على علم بدرجات الحرارة في بوركينا فاسو، وتفاصيل الانتخابات في جنوب أفريقيا، وكمية أسماك التونا في المحيط الأطلسي.
بدأت في الفترة الأخيرة أفقد عدداً من الأشياء الخاصة بي، كزجاجات العطر أو بعض القمصان والجوارب والأحذية والأقلام وسماعة الهاتف السلكية، أبحث عنها فأجدها في غرف أولادي يستعملونها، لا أدري متى كبروا الى هذا الحد؛ لدرجة أن يتنافسوا في إقتناء أغراضي الشخصية وإستعمالها، حتى حين أصبحت أتوقف بالسيارة أمام المخبز يطلب مني ابني البقاء في السيارة، ويذهب هو لتناول الحاجيات كون حركته أسرع.
بالأمس فقط كنت أقنعهم بأي مسألة بكل سهولة، أما الآن فأحتاج الى مبررات علمية ومنطقية من أجل إقناعهم، بل إن خيالي في كثير من الأحيان ما يخونني وأفشل في تلك المهمة، ويدفعونني الى تلبية رغباتهم تحت ضغط الحجج المنطقية التي يسردونها أمامي.
أدرك الآن أنني أحتاج إليهم كثيراً إذا ما واجهت أي مشكلة في الهاتف المحمول أو اللاب توب، والذي أعتقد أنه بحاجة الى مختص لحل تلك المشكلة، فيبادرون الى إجراء بعض العمليات التي أراها معقدة، لأجد بعدها كل شيء على ما يرام.
في المركز الصحي صار وجهي مألوفاً للجميع هناك، زيارة شهرية لطبيب الأسنان التي بدأت بالتسوس وتهدد بالتقاعد المبكر، وغيرها لآلام الظهر وخشونة الركبة التي تعتب عليّ من الإفراط في الحركة سابقاً، وثالثة وقائية لمتابعة قياسات السكر وضغط الدم.
على الرغم من جميع ما تم ذكره سابقاً، إلا أنني ما زلت أجد السعادة في حياتي، أحاول ما إستطعت أن أتكيف مع المستجدات من حولي، أغلقت الكثير من الملفات السابقة كالرياضة والألعاب والسهر، وبدأت ألتزم بنصائح الطبيب بتجنب قائمة طويلة من المنهيات كالدرج والقهوة والسكر والملح والسهر، وكذلك بالتوجه الى تفصيل نظارة للقراءة بعد أن أصبحت مكتبتي التي تضم أكثر من ألفيّ كتاب صديقي الوحيد الدائم، بين حين وآخر أفرغ ما يجول بخاطري من أفكار وتجارب عبر مقالات صحفية، ومحاولات لا بأس بها لكتب، وأتمنى أن تبقى السعادة الى جانبي الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات