عادتنا وتقاليدنا سبقت علم النفس المجتمعي


ربما يعتبر كثيرون من المتخصصين في الصحة النفسية وفي علم النفس أيضا، أن عام 1965م هو التاريخ الرسمي لميلاد علم النفس المجتمعي أو ميدان الصحة النفسية المجتمعية، وهذا صحيح من حيث انطلاقة هذا العلم في ذاك التاريخ، مثلما يصح أيضا عن تبني برامج للصحة النفسية المجتمعية في الخمسينيات من القرن العشرين وبدعم واهتمام من الرئيس الأمريكي آنذاك (كينيدي) .
لكن ربما ما لم يعرفه أولئك المختصين، ولم ينتبه إليه المختصين العرب منهم أيضا؛ هو أن جزءا كبيرا من عادتنا وتقاليدنا العربية، والأردنية تحديدا كانت من أكبر برامج الصحة النفسية المجتمعية وأكثرها فعالية؛ ولكنها تظهر على شكل عادات وتقاليد وتفاهمات بين فئات المجتمع العربي، وليس بالشكل المؤسسي أو الممنهج الذي يلفت إليها الانتباه لتصنف ضمن برامج الصحة النفسية المجتمعية التي تتبناها الحكومات الغربية، والمنظمات الدولية، وقطاعات الصحة النفسية .
ولا بد لنا من معرفة ما هو ميدان الصحة النفسية المجتمعية، ومعرفة العادات والتقاليد الأردنية العربية التي تندرج تحت هذا الميدان، وكيف كان سبق السابق منهما على الآخر، وتميز هذا الميدان على ميدان العلاج النفسي . مع التنويه إلى أن علم النفس المجتمعي موضوع أخر غير علم النفس الاجتماعي، والذي يركز على دراسة الفرد من خلال تفاعله مع الجماعة وكيفية تأثره وتأثيره فيها .
لكن علم النفس المجتمعي منحى بالصحة النفسية ظهر عام 1965م، يركز على دور القوى والعوامل البيئية في نشوء المشكلات وتطورها، ومعالجة هذه المشكلات والتخفيف منها قبل حدوثها أحيانا، مع التركيز على : الوقاية بكافة أنواعها (1)، وعلى تقديم الخدمات النفسية من قبل فئات المجتمع المختلفة كمعلمين المدارس، ورجال الدين، والقادة الاجتماعيين، ورجال الشرطة، وغيرهم بعد تدريهم، وعلى الوصول إلى القرى والأرياف والفئات المحرومة، وكذلك التدخل في الأزمات وحالات الطوارئ كالحروب والكوارث؛ وهذا ما يميز ميدان الصحة النفسية المجتمعية عن ميدان العلاج النفسي الاعتيادي القائم في العيادات والمستشفيات النفسية، ومن قبل المتخصصين في العلاج النفسي فقط، والمعالجة بشكل فردي، وبقدوم الشخص نفسه إلى هذه المؤسسات العلاجية .
أما عادتنا وتقاليدنا العربية والأردنية التي كانت عبارة عن برامج في الصحة النفسية المجتمعية ومنذ عشرات السنين قبل عام 1965م وحتى الآن، والتي عملت على الوقاية من حدوث كثير من الاضطرابات والمشكلات التي يمكن أن تحدث عند الفرد، والتي استطاعت أن تصل إلى فئات وطبقات المجتمع المختلفة، وفي ظروف مختلفة، وسد الثغرة الكبيرة الحاصلة من نقص الاختصاصين والعاملين في العلاج النفسي؛ فمرد تشكلها على هذا الشكل (عادات وتقاليد)، وليس على شكل (برامج) كما هو الحال في الغرب من وجهة نظرنا؛ هو طبيعة المجتمع العربي القائم على نظام العائلة الكبيرة، وعلى التواصل والتعاون، واهتمام الناس بأحوال بعضهم بعض، ودعم بعضهم بعضا . أما برامج الصحة النفسية المجتمعية فمرد ظهورها على هذا الشكل (برامج) في الغرب، فهو المجتمع الغربي القائم على حرية الشخص وتحمله مسؤولياته بنفسه، وعلى الفردية، والمدنية، وعدم التدخل بالآخر، والبراجماتيه الواضحة . لذلك نجد في الغرب برامج لدعم المهاجرين أو الوافدين الجدد أو الأطفال اللقطاء أو غير ذلك .
وربما أقدر لهفة القارئ الكريم في معرفة ما هي هذه العادات والتقاليد التي سبقت وربما تفوقت أيضا على برامج الصحة النفسية المجتمعية في الغرب؛ لذلك سألبي هذه الرغبة بذكر خمسة من العادات والتقاليد الأردنية التي تناولتها في بحثي الذي خصصته عن هذا الموضوع وكنا سباقين فيه والحمد لله . أما هذه العادات والتقاليد (برامج الصحة النفسية المجتمعية) الخمسة فهي : نقوط العروسين، العطوة، دعم ذوي المتوفى، وثيقة الشرف، التثقيف الجنسي قبل الزواج، وسنوضح لكل واحدة منها بشكل مختصر، وأين دورها في الوقاية من حدوث الاضطرابات والمشكلات لدى الإنسان، كما يلي :
1) نقوط العروسين : وهو هبة يقدمها الأشخاص للعريس كتعبير عن مشاركتهم أفراحه، ومساهمة معه لما يتكبده من مصروفات ونفقات بهذه المناسبة، علاوة على أنه دلالة كبيرة وأكيدة على المشاركة الجماعية للفرد، وتعبير عن الضبط الاجتماعي والرابطة الأسرية القوية بين أفراد القبيلة الواحدة، وتحسين العلاقات بين كافة الأطراف . وحيث أن المتزوج سيكون سيدا جديدا في بيته الجديد ولو على زوجته، فأنه يحتاج إلى مقومات ودعم ليكون على هذا المستوى، وهذا ما يقدمه القوم من نقوط لصاحبهم لإعطائه مقومات الاعتماد على الذات، ومقومات الاستقلالية والشعور بالسيطرة، وممارسة المسؤولية، وهذا بحد ذاته تنمية للقيادة لديه . (2)

2) العطوة : أن واحدا من أهم ما يمكن عرضه من برامج الصحة النفسية المجتمعية في المجتمع الأردني، ما يعرف ب(برنامج/عادة) العطوة؛ وذلك لارتباط هذا البرنامج بموضوع القتل وقضايا الشرف، وحفظه للأنفس العديدة التي يمكن أن تزهق في حال عدم وجود هذا البرنامج، واعتباره البديل السليم للعادة المدمرة المعروفة بالثأر، بالإضافة إلى تكفله بحفظ حقوق أهل المجني عليه، وأهل الجاني أيضا من أن يتم الاعتداء عليهم أو إلحاق الضرر بهم، مثلما أن العطوه تتكفل بإجراءات الصلح بين الخصمين وعشائرهم .

3) دعم ذوي المتوفى : يقوم (برنامج/عادة) دعم ذوي المتوفى على مواساة ودعم ذوي المتوفى دعما شاملا وفي جوانب مختلفة، ابتداء من لحظة الوفاة وحتى انتهاء ثلاثة أيام العزاء (وهو عدد الأيام الذي يخصص بالعادة للعزاء) . ويمكن أن تصنيف (برنامج/عادة) دعم ذوي المتوفى ضمن برامج الوقاية الثالثية في الصحة النفسية المجتمعية . أما أشكال الدعم الشاملة والمختلفة التي تقدم لذوي المتوفى فهي تتمثل بثمانية أشكال، هي : المواساة، التعزية، عمل وجبات الطعام، المساعدة في تجهيز مراسم الدفن والعزاء، الدعم المادي، تيسير أمور ذوي المتوفى في العمل والدراسة، إيقاف القطيعة ما بين ذوي المتوفى وما بين خصومهم وإجراء الصلح اللازم، زواج الأخ من زوجة أخيه بعد وفاته .

4) وثيقة الشرف : يعد (برنامج/عادة) وثيقة الشرف من برامج الوقاية الثانوية Secondary Prevention والتي تحاول معالجة المشكلات الناجمة في مراحلها الأولى ومنع تفاقمهما، أو تطورها إلى مشكلات أكبر .
ووثيقة الشرف هي أتفاق بين أبناء الحي أو المنطقة أو العشيرة أو فئة معينة، بعد التشاور فيما بينهما، والاتفاق المشروط بالتعهد، على تمثل والقيام ببعض السلوكيات والأفعال الجيدة والمناسبة للمرحلة أو الزمن أو المكان الذي يمرون بهم، مثلما يتم الاتفاق على نبذ وهجر بعض العادات والسلوكيات السلبية وغير المناسبة داخل المجتمع . فعلى سبيل المثال قد يقوم أهل قرية زراعية بالاجتماع للتوقيع على وثيقة شرف تتعلق بتقسيم مياه النبع في القرية بالتساوي على الجميع لسقي مزارعهم، أو أن يقوم أهل قرية بتوقيع وثيقة تحدد تكاليف الزواج والمهور للحد من مشكلة العنوسة لدى شباب وفتيات تلك القرية، وللتكيف مع ارتفاع الأسعار الذي حصل . ومن أشهر وثائق الشرف في الأردن في السنوات الأخيرة؛ ما عرف ب (وثيقة السلط) التي جاءت للتكيف مع الارتفاع في الأسعار الذي حصل في عام 2008م، وهناك أيضا وثيقة شرف المفرق للحد من استخدام الهواتف النقالة أثناء القيادة، ووثيقة شرف سحاب التي تضمنت مكافحة المخدرات، ووثيقة شرف بلعما للحد من الألعاب النارية، ووثيقة شرف طلاب جامعة عجلون للحد من العنف الجامعي، ووثيقة شرف قرية الهاشمية في عجلون للحد من بعض سلبيات مناسبات الأعراس والتخرج والموت (والتي حضر الباحث الاتفاق على هذه الوثيقة) .

5) التثقيف الجنسي قبل الزواج : من الأشياء المهمة التي يفتقر إليها المجتمع العربي؛ موضوع التثقيف الجنسي والثقافة الجنسية بشكل عام، مثلما يفتقر إلى برامج وندوات التثقيف الجنسي والزوجي للمقبلين على الزواج أو الخاطبين، كما هو الحال في المجتمع الغربي؛ الذي ينظم بين الحين والأخر ندوات وبرامج لهذه الفئة، ولهذه المواضيع . لكن انعدام برامج التثقيف الجنسي للمقبلين على الزواج داخل المجتمع الأردني على المستوى الرسمي أو المؤسسي؛ لم يحل دون وجود مثل هذا التثقيف على مستوى العادات والتقاليد . حيث دأب الأردنيون على تعليم وتثقيف أبناءهم ذكورا وإناثا بشكل منفصل، عندما يقترب موعد زواج أي منهم .
ويظهر (برنامج/عادة) التثقيف الجنسي للمقبلين على الزواج قبل يوم أو يومين من ليلة الزفاف، أو ليلة الدخلة كما تسمى بالمجتمع العربي، وأحيانا أثناء فترة الخطوبة .
ويظهر فيما سبق ذكره من برامج أو عادات الصحة النفسية المجتمعية الممارسة في المجتمع الأردني والعربي؛ أهمية ودور هذه العادات في الوقاية من الكثير من المشكلات النفسية وغير النفسية التي يمكن أن تنشأ لدى الجماعات والإفراد، والأموال التي يمكن أن توفرها جراء علاج تلك المشكلات لو وقعت، وتوفير وقت وجهد الاختصاصين والمهنيين بكافة مجالاتهم، وتخفيف الأعباء على مؤسسات الدولة المختلفة .
ويبدو لنا وبوضح، كم هي حاجتنا للعودة إلى عادتنا وتقاليدنا السليمة، والإيمان بميراث الآباء والأجداد وعدم التقليل من شأنه، بل الإيمان العميق بأمتنا العربية بأنها كانت سباقة في كثير من العلوم والمعارف، وفي حل كثير من المشكلات .

______________

(1) ترول تيموثي ج، علم النفس الإكلينيكي، ترجمة فوزي داود و حنان زين الدين، 2007، دار الشروق، عمان، الأردن .

(2) العبادي، أحمد عويدي، المناسبات البدوية/ سلسلة من هم البدو، 1979م، الطبعة الأولى، مجاز من دائرة المطبوعات والنشر ووزارة الإعلام الأردنية .

* فائدة : قدم الكاتب هذا الموضوع في بحث متخصص، ربما يكون الأول من نوعه، عن أثر العادات والتقاليد الأردنية والعربية على الصحة النفسية، وذلك في مساق الصحة النفسية المجتمعية في برنامج ماجستير علم النفس الإكلينيكي .

 للحصول على نسخة من البحث يرجى المراسلة على البريد الالكتروني التالي : attobh@hotmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات