المقاصديون الجدد


الحديث عن المقاصد في هذه الأيام آخذ في التجاسر على النصوص والنظر إليها على أنها تابعة لا متبوعة ومقودة لا قائدة ، وهي في فلك المقاصد أشبه بالرحى في يد الطّحان ، وهذه النظرية الغريبة مهما حملت من التجديد وتجاوز المنحى ألتجزيئي في تفهم أحكام الشريعة ــ زعموا ــ لا تنطلي إلا على القليل من الناس .
فان أول من تولى كبر هذه الدعوى هو إبليس اللعين حين اعترض على النص بالمصلحة فقابل (( اسجدوا لآدم))"البقرة :34 " بقوله((أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين))"ص:76 "توهم عدو الله أن الخالق تعالى قد قصد بخلقه من النار تفضيله وهذه المصلحة المتوهمة ملغاة وغير معتبرة لأنها صادمة النص الصريح:(( اسجدوا)) .

وجمهور علماء الأصول يسمون المصلحة المناقضة للنص مصلحة ملغاة ولا خلاف بينهم في عدم الاحتجاج بها . ذلك أن مثل هذه المصالح المزيفة هي في حقيقتها أهواء وشهوات ألبست ثوب المصلحة زورا وبهتانا. وقد كان أهل الجاهلية قبل الإسلام يرون في الإشراك في عبادة الله و وأد البنات وقتل غير القاتل وحرمان المرأة من الإرث من المصلحة بينما لا يرون في أكل الميتة وشرب الخمر ومعاشرة الأخدان مفسدة . ولازال هذا المنطق الجاهلي يتكرر عبر قوانين و صحف وقنوات ومنابر أخرى يلبس المفاسد لباس المصالح .

وعلى هذا النهج يظهر بين الفينة والأخرى من لا يرعوي عن استباحة حرمة النصوص الشرعية مع الجهل بدلالات الألفاظ على المعاني والتي هي الينبوع الثر للأحكام . وما كان لهؤلاء المتعالمين أن يبسطوا أيديهم وألسنتهم بالسوء لو وجدوا من يرد أيديهم في أفواههم .

وهؤلاء الثلة الذين فتنوا بزيف المدَنية الغربية قد يجدون في التراث الإسلامي من الشذوذ ما يسترون به عن الناس حقيقة زيفهم وتجافيهم عن أساس الدين الذي يتظاهرون بالدينونة به ... فربما جعلوا من لغو الطوفي ــ عفا الله عنه ــ ونظره المصلحي ملجأ أو مُدخلا لتمرير ما نسمعه من دندنة حول فقه المقاصد ، وأنها القبلة التي يجدر بالفقيه المجتهد أن يولي وجهه شطرها لمعالجة المشكلات التي تواجه المسلمين أيا كانت .. اقتصادية أو سياسية أو ثقافية .

وهذه الدعوة ـــ المتجاسرة على النصوص المتسترة بالمقاصد ــ متلازمة مع دعوات أخرى تنادي بتجديد ألأصول الفقهية للإسلام كما هي الدعوة الترابية المشهورة .

وحين نتكلم عن خطورة مثل هذه الظواهر ، فلا يعني هجر الفقه المقاصدي أو تهميشه .. كلا فحديث القرآن الكريم عن مقاصد الأحكام كثير كما أن من هديه صلى الله عليه وسلم في تقرير الأحكام أن يأتي الحكم مقترنا ببيان مقصده وشواهد هذا في السنة بين واضح لمن طالعه . وكل الذي ننادي به أن توضع الأمور في نصابها الصحيح ، ذلك أن النظر المقاصدي نظر متأخر عند المجتهد وليس سابق على الأدلة الشرعية وهذا متقرر عند فقهاء المقاصد كالشاطبي وغيره .

و فات القوم أن نظرية المقاصد التي يحتطبون بحبالها إنما وضعت في الأساس وضعا تبريريا لما عليه أحكام الشريعة بإضفاء صيغة المقاصد والحكمة عليها ، ولم توضع من أجل تأسيس الأحكام وبنائها ، فهي جعلت لتبرير ما هو كائن ، وليس لما ينبغي أن يكون . فكم يكون الخطل عظيما ، والزلل فادحا حين تتداخل منزلة الأدلة والأحكام الشرعية ومقاصد الأحكام ، وكما أسلفنا فالمقاصد تنبني على الأحكام ، والأحكام بدورها مبنية على الأدلة ، وتصور لو قلبت المعادلة ؟! فامتثال ماأمربه الشارع أو التجافي عما نهى عنه هو عين المصلحة .

وليس أدل على زيف النظر المصلحي ــــ الذي يخالف أو يعارض فيه الباحث الكتاب والسنة ـــ من إجماع الصحابة على ذلك فقد ذموا هذا الرأي الذي يتجاسر على النصوص ويتشبث بطاغوت المصلحة . فهذا الصديق رضى الله عنه تأتيه الجدة تسأله نصيبها من الإرث فيتوقف في أمرها حتى يبحث عن الدليل ولم يلجأ إلى المقاصد والاجتهاد المقاصدي ، لأن الأدلة مرتبتها متقدمة على المقاصد .

والصحابة ــ رضوان الله عليهم عندما يعدمون النص ما كانوا ظاهرية الاجتهاد ، وإنما قاسوا الفروع على الأصول ، وربطوا الأحكام بمداركها ، وإنما قصدوا في ذمهم للآراء .. تلك الآراء التي تقفز فوق الأدلة وتتفلت من ضوابط الاستدلال . وما أجمل قول عمر رضى الله عنه : " أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم السنن أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم" .

والمقاصديون الجدد ينفخون في بعض العبارات المقاصدية لبعض الأئمة ، ويجعلونها تجري على ألسنتهم صباح مساء ، وما عبارة " أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله " بسر .
حتى أن العلامة بن القيم ـــ رحمة الله ـــ يقول وكأنه يخاطب هؤلاء المقاصدية : ( الرأي الباطل أنواع ، احدها الرأي المخالف للنص ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به ولا القضاء ) .

ولعل من الأمثلة المعاصرة التي روعيت فيها المقاصد المزعومة على حساب النص ، ما نسب لأحد العلماء المعاصرين من أصحاب المدرسة المقاصدية ـ عفى الله عنه ـ استغفاره وترحمه على البابا الهالك يوحنا بولس الثاني . مع أن النهي صريح في هذه المسألة " ما كان للنبي واللذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " [ التوبة : 113] ، وجاءت بصيغة النفي لا النهي وهذا من أبلغ صيغ التحريم . فهل المقاصد هي اتباع الأوامر امتثالا ، والنواهي اجتنابا أو شيء آخر ؟ .

لا يخفى أن ما يفصح عن مقاصد المتكلم هو ظاهر خطابه إلا إذا وجدت القرينة الصارفة للنص عن ظاهره ، فإذا لم يوجد شيء من ذلك فاللفظ باق على ظاهره ، ويكون ظاهره هو المعنى المقصود للشارع ، وقد استدل فقيه المقاصدية الشاطبي ــ رحمه الله ــ على أن الأمر الصريح والنهي الصريح يفيدان بظاهريهما قصد الشارع إلى إيقاع المأمور به ، واجتناب المنهي عنه ،

إن الأمر والنهي كلاهما يستلزم أمرين :
الأول : الطلب : طلب الفعل المأمور به أو طلب ترك المنهي عنه .
الثاني : الإرادة : إرادة إيقاع المأمور به وإرادة عدم إيقاع المنهي عنه .

وأخيرا فالطريق السليم لفهم المقصود الشرعي من الأوامر والنواهي ــ كما قرر ذلك الشاطبي ـــ يكون بالنظر في أمور ثلاثة :
الأول : استقراء ما ورد في المسالة : موضوع الأوامر أو النواهي من النصوص .
الثاني : النظر في القرائن الحالية والمقالية المصاحبة للأوامر والنواهي .
الثالث : محاولة استخلاص علة ذلك الأمر أو النهي إن وجدت .
وإنني ومن خلال دراستي واطلاعي على ما يكتبه هؤلاء المقاصديون الجدد والأحداث في هذا الزمان الغابر لأرى أنهم سعوا إلى تحويل مقاصد الشريعة والدراسات المقاصدية إلى وسيلة تمييع،وأداة هدم وفتك للأحكام الشرعية،وتحريف بالغ لنصوص الوحيين الكتاب والسنة،ومطية خداع لتجاوز النصوص الشرعية وتأويلها بالتأويلات الفاسدة،بل حتى أن بعض هؤلاء تجاسر على علماء الأمة بالتحريف لآرائهم وأقوالهم في مسألة علم المقاصد،تماماً كما فعل بعض هؤلاء المقاصديون بتقوييل الإمام الشاطبي رحمه الله ما لم يقل وذلك بشروحاتهم الفاسدة وتأويلاتهم الباطلة على كتبه،وهو شيخ علم المقاصد كما يصفه أخونا وصديقنا الدكتور عبد الرحمن الكيلاني في كتابه قواعد المقاصد.

 



تعليقات القراء

د. محمد خالد
تجريد قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية


1- إِذَا تَعَذَّرَ إقَامَةُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا بِمَا فِيهِ مضرة دُونَ مَضَرَّةِ تَرْكِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ : كَانَ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ مَعَ مَفْسَدَةٍ مَرْجُوحَةٍ مَعَهُ خَيْرًا مِنْ الْعَكْسِ.
2- يَجُوزُ تَرْكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ وَارْتِكَابُ بَعْضِ مَحْظُورَاتِهَا لِلضَّرُورَةِ ؛ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ سُنَّة الخلفاء الراشدين أَوْ وَقَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى بَعْضِ مَا نَهَوْا عَنْهُ ؛ بِأَنْ تَكُونَ الْوَاجِبَاتُ الْمَقْصُودَةُ بِالْإِمَارَةِ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا مَضَرَّتُهُ أَقَلُّ.
3- إذَا كان بحيث إذا أراد فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَجِهَادٍ وَإِمَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ = فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَغْلَبَ الْأَمْرَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ الْمَحْظُورِ لَمْ يَتْرُكْ ذَلِكَ لِمَا يُخَافُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْمَفْسَدَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْمَحْظُورِ أَعْظَمَ أَجْرًا لَمْ يَفُوتُ ذَلِكَ بِرَجَاءِ ثَوَابٍ بِفِعْلِ وَاجِبٍ يَكُونُ دُونَ ذَلِكَ ؛ فَذَلِكَ يَكُونُ بِمَا يَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ.
4- إذا كان َقَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى السَّالِكِ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَحْضَةِ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْمُحْدَثِ لِعَدَمِ الْقَائِمِ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا . فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ النُّورُ الصَّافِي بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا النُّورُ الَّذِي لَيْسَ بِصَافٍ . وَإِلَّا بَقِيَ الْإِنْسَانُ فِي الظُّلْمَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعِيبَ الرَّجُلُ وَيَنْهَى عَنْ نُورٍ فِيهِ ظُلْمَةٌ . إلَّا إذَا حَصَلَ نُورٌ لَا ظُلْمَةَ فِيهِ.
5- الْعُدُولَ عَنْ كَمَالِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا : تَارَةً يَكُونُ لِتَقْصِيرِ بِتَرْكِ الْحَسَنَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَارَةً بِعُدْوَانِ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَلَبَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ قُدْرَةٍ . " فَالْأَوَّلُ " قَدْ يَكُونُ لِعَجْزِ وَقُصُورٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ قُدْرَةٍ وَإِمْكَانٍ . و " الثَّانِي " : قَدْ يَكُونُ مَعَ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غِنًى وَسَعَةٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاجِزِ عَنْ كَمَالِ الْحَسَنَاتِ وَالْمُضْطَرِّ إلَى بَعْضِ السَّيِّئَاتِ مَعْذُورٌ.
6- التَّعَارُضُ إمَّا بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ فَتُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمَا بِتَفْوِيتِ الْمَرْجُوحِ وَإِمَّا بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْهُمَا ؛ فَيَدْفَعُ أَسْوَأَهُمَا بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا . وَإِمَّا بَيْنَ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ لَا يُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ؛ بَلْ فِعْلُ الْحَسَنَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ السَّيِّئَةِ ؛ وَتَرْكُ السَّيِّئَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْحَسَنَةِ ؛ فَيُرَجَّحُ الْأَرْجَحُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ وَمَضَرَّةِ السَّيِّئَةِ. ... فَتَبَيَّنَ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُحْتَمَلُ فِي مَوْضِعَيْنِ دَفْعِ مَا هُوَ أَسْوَأُ مِنْهَا إذَا لَمْ تُدْفَعْ إلَّا بِهَا وَتَحْصُلُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْ تَرْكِهَا إذَا لَمْ تَحْصُلْ إلَّا بِهَا وَالْحَسَنَةُ تُتْرَكُ فِي مَوْضِعَيْنِ إذَا كَانَتْ مُفَوِّتَةً لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا ؛ أَوْ مُسْتَلْزِمَةً لِسَيِّئَةٍ تَزِيدُ مَضَرَّتُهَا عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ
7- إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي لِلسُّلْطَانِ الْعَامَّ أَوْ بَعْضَ فُرُوعِهِكَالْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ وَتَرْكُ مُحَرَّمَاتِهِ وَلَكِنْ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ مَا لَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ قَصْدًا وَقُدْرَةً : جَازَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَرُبَّمَا وَجَبَتْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَحْصِيلُ مَصَالِحهَا مِنْ جِهَادِ الْعَدُوِّ وَقَسْمِ الْفَيْءِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَمْنِ السَّبِيلِ : كَانَ فِعْلُهَا وَاجِبًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِتَوْلِيَةِ بَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَأَخْذِ بَعْضِ مَا لَا يَحِلُّ وَإِعْطَاءِ بَعْضِ مَنْ لَا يَنْبَغِي ؛ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ ذَلِكَ : صَارَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ إلَّا بِهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ دُونَ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ بَلْ لَوْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ظُلْمٍ ؛ وَمَنْ تَوَلَّاهَا أَقَامَ الظُّلْمَ حَتَّى تَوَلَّاهَا شَخْصٌ قَصْدُهُ بِذَلِكَ تَخْفِيفُ الظُّلْمِ فِيهَا . وَدَفْعُ أَكْثَرِهِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِ : كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ وَكَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَةِ بِنِيَّةِ دَفْعِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا جَيِّدًا . وَهَذَا بَابٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ.

فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا وَلَمْ يَكُنْ تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ مُحَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ وَسُمِّيَ هَذَا فِعْلُ مُحَرَّمٍ بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ لَمْ يَضُرَّ . وَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا تَرْكُ الْوَاجِبِ لِعُذْرِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ ؛ أَوْ لِدَفْعِ مَا هُوَ أحرم...
8- وَهَذَا بَابُ التَّعَارُضِ بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا لَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي نَقَصَتْ فِيهَا آثَارُ النُّبُوَّةِ وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ تَكْثُرُ فِيهَا وَكُلَّمَا ازْدَادَ النَّقْصُ ازْدَادَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ وَوُجُودُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَطَتْ الْحَسَنَاتُ بِالسَّيِّئَاتِ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ وَالتَّلَازُمُفَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَسَنَاتِ فَيُرَجِّحُونَ هَذَا الْجَانِبَ وَإِنْ تَضَمَّنَ سَيِّئَاتٍ عَظِيمَةً وَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى السَّيِّئَاتِ فَيُرَجِّحُونَ الْجَانِبَ الْآخَرَ وَإِنْ تَرَكَ حَسَنَاتٍ عَظِيمَةًوالمتوسطون الَّذِينَ يَنْظُرُونَ الْأَمْرَيْنِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَوْ لِأَكْثَرِهِمْ مِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ أَوْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُعِينُهُمْ الْعَمَلَ بِالْحَسَنَاتِ وَتَرْكَ السَّيِّئَاتِ ؛ لِكَوْنِ الْأَهْوَاءِ قَارَنَتْ الْآرَاءَ.

9- فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ أَنْوَاعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَدْ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا - كَمَا بَيَّنْته فِيمَا تَقَدَّمَ - : الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ ؛ لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةِ فِعْلًا لِمَعْصِيَةِ أَكْبَرَ مِنْهَا فَيَتْرُكُ الْأَمْرَ بِهَا دَفْعًا لِوُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ مِثْلَ أَنْ تَرْفَعَ مُذْنِبًا إلَى ذِي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ مَا يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ذَنْبِهِ وَمِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ تَرْكًا لِمَعْرُوفِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِنْ تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ فَيَسْكُتُ عَنْ النَّهْيِ خَوْفًا أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ . فَالْعَالِمُ تَارَةً يَأْمُرُ وَتَارَةً يَنْهَى وَتَارَةً يُبِيحُ وَتَارَةً يَسْكُتُ عَنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ أَوْ الْإِبَاحَةِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ الرَّاجِحُ - كَمَا تَقَدَّمَ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ : إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِظُلْمِهِ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ كَمَا قِيلَ : إنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ كَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ الْأَمْرِ بِأَشْيَاءَ وَالنَّهْيِ عَنْ أَشْيَاءَ حَتَّى عَلَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ ...فَفَرْقٌ بَيْنَ تَرْكِ الْعَالِمِ أَوْ الْأَمِيرِ لِنَهْيِ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ الشَّيْءِ إذَا كَانَ فِي النَّهْيِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَبَيْنَ إذْنِهِ فِي فِعْلِهِ . وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ . فَفِي حَالٍ أُخْرَى يَجِبُ إظْهَارُ النَّهْيِ : إمَّا لِبَيَانِ التَّحْرِيمِ وَاعْتِقَادِهِ وَالْخَوْفِ مِنْ فِعْلِهِ . أَوْ لِرَجَاءِ التَّرْكِ . أَوْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ.
10- فَإِذَا حَصَلَ مَنْ يَقُومُ بِالدِّينِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا كَانَ بَيَانُهُ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بُعِثَ بِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَلَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً كَمَا يُقَالُ : إذَا أَرَدْت أَنْ تُطَاعَ فَأْمُرْ بِمَا يُسْتَطَاعُ . فَكَذَلِكَ الْمُجَدِّدُ لِدِينِهِ وَالْمُحْيِي لِسُنَّتِهِ لَا يُبَالِغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَمَا أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ حِينَ دُخُولِهِ أَنْ يُلَقَّنَ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ وَيُؤْمَرَ بِهَا كُلِّهَا . وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنْ الذُّنُوبِ ؛ وَالْمُتَعَلِّمُ وَالْمُسْتَرْشِدُ لَا يُمْكِنُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُؤْمَرَ بِجَمِيعِ الدِّينِ وَيُذْكَرَ لَهُ جَمِيعُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ وَالْأَمِيرِ أَنْ يُوجِبَهُ جَمِيعَهُ ابْتِدَاءً بَلْ يَعْفُوَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِمَا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ إلَى وَقْتِ الْإِمْكَانِ كَمَا عَفَا الرَّسُولُ عَمَّا عَفَا عَنْهُ إلَى وَقْتِ بَيَانِهِ
وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَقَدْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ .
11- فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ بِالْفَسَادِ الْكَثِيرِ وَلَا دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَمَطْلُوبُهَا تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَا جَمِيعًا وَدَفْعُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعَا جَمِيعًا
12- و الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة =أبيح المحرم..
24-01-2011 03:34 PM
حجابي عنوان إيماني
شيخنا الفاضل بورركت على هذا المقال
بس للعلم النصوص الشرعية تمتاز بالمرونة
بمعنى أنو أي واحد بستطيع يؤولها كما يريد
لكن المسألة يحكمها تقوى الله عز وجل
ونحن نلحظ أن الكثير من الناس يقومون بتأويل النصوص وفق هواهم ورغباتهم
أو بالمعنى يحملون النص أكثر مما يحتمل
والله المستعان
24-01-2011 03:39 PM
علماني منصف
حضرة الكاتب المحترم
كما أنه يوجد مقاصديون جدد أيضاً يوجد الدعاة الجدد ووظيفة هؤلاء الدعاة هو قتل الروح الجهادية لدى الشباب وتوجيههم إلى الروحانيات على أن الدين دين تكايا وزوايا فيا ريت علماء الأمة ينتبهوا لمثل هذا الفكر والله أعلم........................
ـــــــــــــــــــــــــــ
24-01-2011 03:44 PM
عامر
إقتباس
ولعل من الأمثلة المعاصرة التي روعيت فيها المقاصد المزعومة على حساب النص ، ما نسب لأحد العلماء المعاصرين من أصحاب المدرسة المقاصدية ـ عفى الله عنه ـ استغفاره وترحمه على البابا الهالك يوحنا بولس الثاني . مع أن النهي صريح في هذه المسألة " ما كان للنبي واللذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " [ التوبة : 113] ، وجاءت بصيغة النفي لا النهي وهذا من أبلغ صيغ التحريم . فهل المقاصد هي اتباع الأوامر امتثالا ، والنواهي اجتنابا أو شيء آخر ؟

والله شيء غريييييييييييييييب نسأل الله الثبات حتى الممات
ورحم الله العز ابن عبد السلام وصلاح الدين وعمر المختار و...و
24-01-2011 03:52 PM
طالبة شريعة
والله هدول اللي بركزوا عالمقاصد إنهم مو فاهمين إشي وبكونوا بحكوا بحكوا وبئولوا النصوص تأويلات عجيبة واحنا مش فاهمين عليهم يعني صعبوا علوم الشريعة كتير بالفلسفة الزايدة علما أن علم المقاصد علم جليل لكن البعض توسعوا فيه كتير حتى زاد الأمر عن حده
24-01-2011 05:51 PM
ابو معتز/ شفا بدران
شيخي العزيز
السلام عليكم ورحمة الله
وعدتنا يا شيخنا الجليل في مقال سابق أن تتحدث لنا عن الأخطاء التي يرتكبها الناس في صلاتهم
نرجو من فضيلتك أن تكتب لنا في هذا الموضوع لأنه مهم جدا
وجزاك الله خيرا
24-01-2011 09:02 PM
من بشار إلى المعلق 3
يا أخي الأصل أن تسمي نفسك ( جهادي منصف) مو علماني
كلامك ذهب لكن اسمك تعب
مع أني أوافقك الرأي فيما ذهبت إليه وأرجو المعذرة
24-01-2011 09:31 PM
محمد بني سلامة/ زمال
أحسنت يا ابن الأخت العزيز وزادك الله علماً ومعرفة وفتح الله عليك مع أجمل تحياتي
24-01-2011 10:09 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات