يا ريح أنت ابن السبيل ماعرفت ماالوطن!


أيام كنا على مقاعد الدراسة، كانت مفردات القومية والوطنية تتسلل إلى ذاكرتنا شيئا فشيئا؛ فكنا حينها نتغنى ببلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان تارة، وتارة أخرى نشدو بقصيدة لأحمد شوقي يصور فيها محاولات فاشلة لريح تغري عصفورتين حجازيتين في خامل من الرّياض لاندٍ ولا حسن، بترك وطنهما إلى خمائل صنعاء وفي ظل عدن. فقالت له إحداهما والطير منهن الفطن: ياريح أنت ابن السبيل ما عرفت ما السكن. هب جنة الخلد اليمن لاشيء يعدل الوطن.
قفزت هذه القصيدة أمام ناظريّ وأنا أشاهد بأم عيني نباتات متسلقة لم نعهد لها عيشا في تربتنا الطاهرة، نباتات طفيليّة من عائلة العلّيق غزت أشجار زيتوننا، فهرسته ودرسته ومن ثم عصرته فتغذت عليه، فتطاولت سيقانها لتعلو فوق هذه الزيتونة الرّومية التي تمتد جذورها إلى مادون الصفائح الصخرية في أعماق صَفَا الكورة الخيِّرة، وجبال عجلون والشوبك، وسهول بني كنانة. علّيق يميل حيث تميل الرّيح؛ فلا سكن له ولا مسكن في عُرفنا، فالوطن في دَيْدَنِهِم وشرعتهم المعوجة مشاريع غير مشروعة، واستثمارات يجنون ثمارها لتتحوّل إلى شيكات وأرصدة وقصور تستقر في عاصمة الظباب والضباب، أو في بلاد عمو سام وبابا نويل.
إنهم يميلون مع كل دُفٍّ يرقصون عليه، ويتمايلون مع كل ضربة طبل، كثيرو الحّل والترحال. فإن أوشك نبعٌ وَلَغوا فيه حتى ارتوَوا على النضوب، فسرعان ما يتأبطون أرصدتهم باحثين عن ينابيع أخرى يردمونها بعد أن يجففوها ويتمتعوا بما فيها من خيرات. وإن عزّ عليك معرفة هؤلاء، فعليك النظر إلى سِحَنِهم؛ فوجوههم لم يلفحها قيظ الشونة، ولم تتعفر بغبار المفرق ومعان. أياديهم في الأسفل تأخذ، تسرق، تختلس، ولكنها لاتعطي. ألسنتهم جافة غير رطبة لابذكر الله تعالى ولا بخير؛ لغتهم الدولار، ولهجتهم اليورو والين والجلدر الهولندي.
أما الوطن عندنا فمختلف الاختلاف كلّه؛ فهو عشّ بُنِيَ بحجارة الصَّوّان والقِرِطْيان، ولا يغرّنّك صغر حجمه، فلديه جناحان قادران على احتضان مدينة في الشمال، ومخيم في الوسط، وبادية في الجنوب. كما أن باستطاعتهما احتضان بيارات الأغوار وما في المفرق من شيح وقيصوم. الوطن عندنا دِرّةُ تنزّ خيرا على الدوام أكان فيها حليب أم لم يكن؛ فلا نستل شبريتنا ولا خنجرنا لننحرها إن جفّ ضرعها إذا ما عجفت الأيام. فإن مرّت سنين عجاف شِداد فالأمل بسنوات خير فيها نعصر ونزرع في تربة غرزنا فيها أحلاما وبذرنا فيها حَبٍّا وحُبًّا.
عندما كنا صغارا يافعين، كنّا نبني عريشة مقاثي؛ وهي عبارة عن بناء يتكون من أربعة قهاقير، حيث يوضع حجر مستو فوق حجر مستوٍ آخر بطول لايتجوز المتر، ومن ثمّ نصنع سقفا له من شوال أبو خط أزرق أو أحمر نستظل فيه من حرّ الشمس، وذلك للعناية بالمقثاة من عبث العابثين، وتطاول المختلسين. وما زالت حجارة العريشة في مكانها غير قابلة للمساومة ولا البيع على مبدأ( الحجر في محله قنطار) هذه الحجارة أطهر ثمنا من الفلل والقصور التي بنيت على حساب قوت عيال أبو تحسين والحجة زريفة، وعلى حساب بَكَم أبو العبد، وعرباية خلف الحنيش؛ إنها قصور ضرّ وضرار حتى ولو كان ثمنها عشرات الملايين.
عرائشنا باقية ونحن باقون، قصورهم وفللهم زائلة وهم زائلون؛ فنحن أيْكٌ مثمرٌ، وهم ريح صرصر لاتحمل في طياتها خيرا ولا بركة، بل تحمل شرًّا وسرسرة.
وسنظل نقول دائما: هب جنة الخلد اليمن لاشيء يعدل الأردن ملكا وشعبا وأرضا على طول الزمن.



تعليقات القراء

د. محمود غباشنه
لك الشكر والتقديرعلى هذه المقالات الرائعة التي لا تنبع الا من محب ومخلص لهذا الوطن الغالي علينا حميعا.
19-01-2011 09:10 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات