رحيل مهندس القنبلة النووية الاسلامية


توفي الدكتور الباكستاني عبد القدير خان عالم الفيزياء النووية ومهندس علم الفلزات والسبائك يوم الأحد 10 / 10 / 2021 عن عمر ناهز 85 عام بعد تدهور حالته الصحية منذ إصابته بفيروس كورونا في آب الماضي. والراحل يعتبر أبو البرنامج الردع النووي الباكستاني وأول من نقل التكنولوجيا النووية إلى العالم الإسلامي غير أن الفصل الأكثر إثارة في سيرة ومسيرة خان هو تنقله بين كراتشي وهولندا وتمكنه من تعلم التكنولوجيا النووية والعودة إلى إسلام آباد ليخدم وطنه بكل امانة واخلاص

يعتبر خان في بلاده والعالم الإسلامي أجمع بطلاً وطنيا و قومياً لأنه جعل إسلام آباد في عام 1998 أول قوة نووية إسلامية في العالم في حين يعتبره الغرب شخصاً خطيراً ويحمله المسؤولية عن وصول التكنولوجيا النووية إلى إيران وليبيا وكوريا الشمالية

وما لا يعرفه كثيرون أن عبد القدير خان هندي الاصل ولد في مدينة بوبال في وسط الهند عام 1936 أثناء فترة الاحتلال البريطاني أي قبل انفصال باكستان عن الهند لكن بعد الانسحاب البريطاني وحدوث موجة من العنف فرَ بعض الهندوس والسيخ والمسلمون إلى باكستان وقد نشأ خان متدينًا وملتزمًا بصلواته متأثرا بأمه ( زليخة بيجوم خان ) التي كانت سيدة ملتزمة بالصلوات الخمس وتتقن اللغة الأوردية والفارسية

بعد تخرجه من الثانوية من الثانوية ببوبال ترك خان الهند في عام 1952بعد شعورهً بالنفور من معاملته كمواطن من الدرجة الثانية حيث لم يكن هناك أي مستقبل للمسلمين في بوبال الهندية ولهذا لجأ إلى كراتشي حيث كان خان الابن الأصغر من بين سبعة أبناء والده عمل مدير مدرسة ثانوية في بوبال وشغل من قبل دوراً كبيراً في التعليم الوطني وهو ما أثّر لاحقا في شخصية خان وهو يشاهد الناس وهو بعمر سبع سنوات يقفون من باب الاحترام والتقدير لوالده كمعلم ومربي

بعد فترة وجيزة من إنهاء دراسته الجامعية في كراتشي انتقل خان إلى أوروبا لإكمال تعليمه حيث قضى في جامعة برلين التقنية سنتين من التدريب قبل أن يلتحق بجامعة دلفت التكنولوجية بهولندا عام 1967 ثم عاد إلى باكستان وتقدم بطلب للحصول على وظيفة في مصنع للصلب جديد وذلك بعد نيله درجة الماجستير لكنه لم يتلق أي عرض عمل ورجع على اثرها إلى أوروبا ليكمل تعليمه العالي حيث أنهى تكوينه بجامعة لوفين البلجيكية عام 1972 وحصل منها على درجة الدكتوراه في الهندسة بتخصص علم المعادن

اخذت حياة خان منعطفا غير مستقبله بشكل جذري بعدما حصل على منصب في شركة FDO الهولندية التي طورت أجهزة طرد مركزي تعمل بالغاز لصالح منظمة اليورنكو أكبر منظمة بحثية أوروبية مدعومة من أمريكا وألمانيا وهولندا وهي بمثابة اتحاد أوروبي يوفر الوقود لمفاعلات الطاقة النووية

وهنالك حدثان طارئان حفزاه على العودة إلى باكستان الأول يتعلق بالحرب التي وقعت عام 1971 وانتهت بغزو الهند السريع لباكستان الشرقية والتي أصبحت في ما بعد بنغلاديش واستسلام الجيش الباكستاني بطريقة مهينة والذي اعتبر إهانة لبلاده أما الحدث الثاني فهو بدء تجربة الهند النووية في عام 1974 حيث كتب لرئيس الوزراء الباكستاني حينذاك ذو الفقار علي بوتو شرح له مسألة تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم وعرض تقديم خدماته لبلاده
أعجب رئيس الوزراء بتو بحماس ووطنية خان فأرسل له طالباً الاجتماع به حضر خان زوجته وبناته في زيارة إلى باكستان والتقى ببوتو وتعرف على البرنامج النووي الباكستاني الوليد

وبعد مرور عام على زيارته أقنع بوتو عام 1976بمنحه سيطرة حصرية على برنامج تخصيب اليورانيوم الناشئ وبناء على ذلك قام بنقل أسرته بشكل دائم إلى باكستان وبحسب ادعاءات مركز كارنيغي المشكوك فيها انه غادر بدون علم الشركة التي يعمل بها وانه حمل معه ثلاث حقائب مليئة بالأوراق والصور التي تتعلق بتصميم اجهزة الطرد المركزي
في عام 1974 أطلقت مفوضية الطاقة الذرية الباكستانية برنامج التخصيب


عقب وصوله الى باكستان شرع في بناء منشأة لتخصيب اليورانيوم بالاعتماد في الغالب على علاقاته الأوروبية وبحلول مطلع عام 1983 أسس مجمع معامل هندسية للبحوث في مدينة كاهوتا القريبة من روالبندي وقد غير الرئيس الأسبق ضياء الحق اسم المجمع إلى معامل الدكتور عبد القدير خان للبحوث حيث اصبحت بؤرة لتطوير تخصيب اليورانيوم

بعدما عمل خان على تطوير العديد من مشاريع الأسلحة الباكستانية النووية حيث أنتج من خلالها ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع أسلحة نووية بعدما استطاع الفريق الباكستاني لمعامل خان للبحوث( تصميم النابذات وتنظيم خطوط الأنابيب الرئيسية ) وحساب الضغوط وتصميم البرامج والأجهزة اللازمة للتشغيل حيث استغرق العمل في انجازها ثلاث سنوات فقط وفق ما أقر به خان نفسه

وقد امتدت أنشطة معامل خان البحثية لتشمل برامج دفاعية مختلفة لتصنع صواريخ وأجهزة عسكرية أخرى كثيرة اضافة الى أنشطة صناعية وبرامج وبحوث تنمية كما أنشأ معهد للعلوم الهندسية والتكنولوجية ومصنعً للحديد والصلب ودعم المؤسسات العلمية والتعليمية ويتلخص إنجاز الراحل المبهر في تمكنه من إنشاء مفاعل ( كاهوتا ) النووي في ستة أعوام حيث أصبحت جمهورية باكستان الإسلامية رسمياً قوة عسكرية ذرية وهو ما مكنها من تحقيق الأمن والردع في مواجهة دولة عدوانية بالجوار تمتلك سلاحاً نووياً أكبر

يقول الدكتور خان في أحد مقالاته كان أحد أهم عوامل نجاح البرنامج في زمن قياسي درجة السرية العالية التي تم الحفاظ عليها كما كان لاختيار موقع المشروع في مكان ناءٍ في كاهوتا أثر بالغ في ذلك وقد كان الحفاظ على أمن الموقع سهلا بسبب انعدام جاذبية المكان للزوار من العالم الخارجي حتى ان رئيسة الوزراء السابقة بناظير بوتو في تلك الفترة لم يكن يسمح لها بزيارة معامل خان للبحوث

وأن موقعها القريب نسبيًا من العاصمة يسر اتخاذ القرارات السريعة وتنفيذها دون أي تعطيل وما كان لأحد أن يصدق أن دولة غير قادرة على صناعة إبر الخياطة ستحوز على هذه التقنية النووية المتقدمة حيث تمتلك باكستان اليوم نحو 140-150 رأساً نووياً مقارنة بعدد الرؤوس الحربية الهندية البالغ 130-140 ويعتقد أن باكستان تمتلك ايضا نظامي إطلاق يشملان القنابل الجوية الليزرية والصواريخ الموجهة

اتُهم خان ببيع وتسريب معلومات ومواد تستخدم في تصنيع القنابل النووية إلى كوريا الشمالية وإيران وليبيا وزبون رابع غير معروف بالضبط يرجح أن يكون سوريا أو مصر أو السعودية ولهذا تعرض لملاحقة امريكية وغربية على خلفية هذه الاتهامات كما اعترف خان في خطاب بثه التلفزيون الوطني الباكستاني

بأنه باع التكنولوجيا النووية إلى الدول الثلاث سالفة الذكر وقد انته المحاك الباكستانية وحكم عليه بالسجن ثم أصدر الرئيس الباكستاني الأسبق برويز مشرف عفواً رئاسي عنه لكنه ظل قيد الإقامة الجبرية لسنوات في منزله الفخم في إسلام أباد منذ العام 2004 كما وجه خان اثناء محاكمته الاتهام لعدد من جنرالات الجيش بالضغط عليه ودفعه الى بيع التكنولوجيا إلى الدول الثلاث ورَفَضَ إلقاء اللوم عليه فقط

كما أنه تم رفع قضية على خان في هولندا بتهمة سرقة وثائق نووية سرية وحكم عليه غيابيا بأربع سنوات لكن في الاستئناف تم تقديم وثائق من قبل ستة أساتذة عالميين أثبتوا فيها أن المعلومات التي كانت معه هي من النوع العادي وأنها منشورة في المجلات العلمية منذ سنين بعدها أسقطت محكمة أمستردام العليا التهمة عنه

عام 2009 أنهت محكمة باكستانية إقامته الجبرية لكن تحركاته ظلت تخضع لحراسة مشددة وكانت ترافقه السلطات في كل مرة يغادر فيها منزله وكان مجبرا على إبلاغ السلطات بكل تحركاته وبرغم اعتباره بطلاً قومياً خَلُصَ محققون باكستانيون إلى أن خان كان فاسداً بعد أن وجدوا أن عالم الذرة كان يمتلك عدة منازل باهظة الثمن كما وجدوا ثمانية ملايين دولار في حسابات مصرفية تعود له موزعة بين باكستان ودبي وسويسرا
ا
في الواقع تعد أبرز قضية تورط فيها خان هي بيع التكنولوجيا النووية إلى ليبيا والتي تم كشفها عندما أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أن الزعيم الليبي معمر القذافي قرر الكشف عن جميع برامج أسلحة الدمار الشامل في بلاده وتفكيكها حيث عثرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في طرابلس على أجهزة طرد مركزي كان مصدرها خان وموردين تابعين له

وقد ذكر لا حقا ان خان وافق آنذاك على تزويد ليبيا بمنشأة تخصيب تضم 10000 جهاز طرد مركزي جديد ًعلى غرار الجيل الثاني من الطرادات في باكستان كان تصنيعها وتجميعها يتم في ماليزيا ثم تهرب إلى ليبيا عبر دبي وفي نهاية المطاف تمكنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية من تعقب جميع مكونات ومواد الطرد المركزي التي نقلها خان إلى ليبيا وإيران وكوريا الشمالية

سنة 1986حدث أول تفجير نووي باكستاني تحت سطح الأرض وتعد التجارب النووية الست التي قامت بها باكستان في عام 1998 بمثابة تأشيرة دخولها النادي النووي حيث أصبح عبد القدير خان بسببها بطل باكستان الثاني بعد ( محمد علي جناح ) أول رئيس لباكستان وقد أطلقت عليه الصحافة لقب ( أبي القنبلة الذرية الإسلامية ) وامتلأت شوارع المدن الباكستانية بصوره وذاع صيته خاصة مع ذلك بالمجهودات الخيرية التي كان يقوم بها مثل إنشاء العديد من المدارس وحملته لمكافحة الأمية

وفي تلك الفترة نال خان 13 ميدالية ذهبية من معاهد ومؤسسات قومية مختلفة ونشر حوالي 150 بحثًا علميًا في مجلات علمية عالمية كما حصل خان على 13 ميدالية ذهبية من معاهد ومؤسسات مختلفة ومنح وسام هلال الامتياز عام 1989 ثم نيشان الامتياز عام 1996 وهو أعلى وسام مدني تمنحه دولة باكستان تقديرا لجهوده في تعزيز قدرة بلاده الدفاعية واسهاماته المهمة في العلوم والهندسة

الدكتور عبد القدير خان قيمة وقامة ورمزا وطنيا وعالميا وان في وفاته خسارة كبيرة لباكستان ولامة العربية والاسلامية ولكن عزاءَنا أنه ترك علما ينتفع وهو ما يبقيه حيا رغم أنه قد أفضى إلى ربه به رحمه الله وغفر له وأكرم نُزله وجعل مقامه في عليين وجمعنا به في مستقر رحمته إخوانا على سرر متقابلين آمين
mahdimubarak@gmail.com






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات