خلال زيارة ( صانع الأفلام الوثائقية ومالك شركة التسويق الكبرى في الولايات المتحدة الحائز على أكثر من جائزة دولية ) الصحفي الأميركي " مارتن سميث " مؤخرا إلى شمال غرب سوريا وتحديدا منطقة ادلب ولمدة ثلاث أيام قضاها في ضيافة ورعاية أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام الإسلامية ( جبهة النصرة سابقاً )

تفاجأ الكثيرين بظهور الجولاني عبر صور نشرها الصحفي الأمريكي على حسابه في تويتر بعد لقائه معه وهو يرتدي ( بدلة رسمية من غير ربطة عنق ) وشعره مصفف على غير عادته بعدما نزع عمامته ولباسه الجهادي والعسكري الخاكي والمرقط الذي لازمه لسنوات ولأول مرة أطل بهذه الحلة الجديدة وهذا الزي " الموديرن " الذين يرتديه بشكل رسمي ومستمر رجال الأعمال والدبلوماسيون والسياسيون الغربيون ( ظهر الجولاني بداية بزي إسلامي خاص ومن ثم خلع العمامة وارتدى اللباس الشعبي الاعتيادي والآن البدلة الليبرالية الرسمية )

طيلة السنوات السابقة من الثورة السورية عكف الجولاني على عدم ظهوره بشكل علني واشتهر بأنه لا يحسر عن وجهه في اجتماعاته مع قادة الكتائب التابعة له وأمام مقاتليه وحتى في مقابلاته الصحفية وذلك من جانب السرية المفرطة والاحتياطات الأمنية العالية التي أكدها كل من التقى به وقد ظلت هويته مخفيه خلال تنقلاته من العراق إلى سوريا كما ألصقت به عدة أسماء لم يعرف أصحها وأبرزها كان ( محمد الجولاني وأبو محمد الجولاني وأبو أشرف أحمد حسين الشرع والشيخ الفاتح وأوس الموصلي وأسامة العبسي الواحدي ) وقد قال الجولاني لمصادر مقربة منه في عام 2020 أن اسمه هو ( أحمد ابن الخبير الاقتصادي حسين علي الشرع ) الذي ينحدر من منطقة فيق في الجولان السوري المحتل

كان الجولاني دائما يعيب على الفصائل المختلفة تلقي الدعم الخارجي من امريكا وغيرها والآن هو يجلس مع الأمريكان بشكل واضح وبدون منهجية مفهومة وقد أثار ظهوره مرتديا الزي الرسمي للمرة الأولى ضجة واسعة وتساؤلات عديدة بين السوريين وبعض الباحثين ومختلف رواد مواقع التواصل الاجتماعي حول دلالة هذه الخطوة غير المسبوقة وما إن كانت تشي وتؤشر الى تحولات تنظيمية وسياسية جديدة لـمسار هيئة تحرير الشام بعدما فشل زعيمها حتى الآن في تأسيس مشروع اندماج حقيقي وموحد لكافة فصائل المعارضة السورية المسلحة

وعليه يبدو أن الجولاني يسعى من خلال هذه " اللوك العصري " إلى بعث رسائل تطمئن الغرب وتثبت تحوله نحو الاعتدال وأولوياته المنحصرة في تشكيل الانطباع العالمي الجديد عنه وعن تنظيمه بعد تخليه عن الخطاب السلفي الجهادي وقيامه بمحاربة تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة من خلال فرعه السوري ( حراس الدين ) إضافة الى انه بدأ يقدم نفسه باعتباره ضامنًا لبقاء المقاتلين الأجانب والجهاديين في إدلب تحت السيطرة وانه تنظيمه سيعمل كحليف في إطار الحرب على الإرهاب بما يمثله من سلطة محلية معتدلة يجب التنسيق معها

كل ما يؤمله أبو محمد الجولاني من مناوراته المتنوعة هو رفعه وتنظيمه من قائمة الإرهاب والدخول في المشهد السياسي السوري بقوة اكبر بعد تثبيت نفسه كسلطة حكم في إدلب وهاهو اليوم يعيد تعريف نفسه وتنظيمه كفصيل معتدل يمتلك الشرعية المحلية ويسعى الى تطبيق مبادئ الحياة المدنية الغربية وينتظر قبوله في الأوساط الدولية وخصوصا أنه يرى في قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة بايدن فرصة يجب اغتنامها وكأنه يريد القول إنه لم ( يعد مهتما بالجانب العسكري ويريد أن يكون مشاركا في الحل السياسي السوري وانه يلتزم بالتسوية والتوافقات التركية الروسية وغيرها )

وقد برر البعض ان الظهور الإعلامي الجديد للجولاني يأتي تتويجا لسلسلة من التحولات السابقة والتي كانت دائما مرفوضة وانه لا يخرج عن محاولات هيئة تحرير الشام المستمرة منذ تأسيسها في العام 2017 الهادفة إلى التواصل مع مراكز التأثير والقرار في الغرب لتحسين صورتها النمطية في الإعلام الغربي حيث سبق هذه الخطوة لقاءات عدة كان من بينها لقاء الجولاني مع مجموعة إدارة الأزمات الدولية ولقاء شرعي " تحرير الشام " عبد الرحيم عطون " مع صحيفة سويسرية العام الماضي ولكن تحول الهيئة إلى السلطة المحلية في إدلب منذ بداية 2019سرع في بروز هذا المظهر المعتدل بشكل اكبر خاصة بعدما أصبح الحل العسكري للأزمة السورية غير مرجح فلا النظام ولا الفصائل قادرة على حلها عسكرياً مما يعني أن الحل السياسي سيكون حتمي بلا ريب

في عام 2016 أعلن زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني فك الارتباط بتنظيم القاعدة ووقف العمل باسم الجبهة وتشكيل جماعة جديدة باسم " جبهة فتح الشام " في أول ظهور له بوجهه المكشوف لأول مرة عبر تسجيل مصور بثته عدة وسائل إعلامية حيث قال في حينها إنه يشكر قادة تنظيم القاعدة على تفهمهم ضرورات فك الارتباط الذي جاء تلبية لرغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي حسب قوله

ربما لا يتحمل الجولاني وحده انتكاسات وانكسارات الثورة السورية ولكنه ودون أي شك أحد الذين ساهموا عن سبق إصرار وترصد بوصولها إلى الوضع المزري الحالي والانكفاء مع جماعته في إدلب وما حولها وبسط سيطرته عليها وليس بعيداً أن يدعو بعد سنوات قليلة فقط لانتخابات ديمقراطية صورية وتبني نموذج جمهوري إسلامي وربما يشارك في مفاوضات جنيف تحت مظلة الأمم المتحدة وبدعم دولي بفرضية انه أحد الأطراف "الشرعية" التي تمثل السوريين في الصراع

في لقاء صحفي على قناة الجزيرة عام 2016 مع المذيع ( تيسير علوني ) أعطى الجولاني ظهره للكميرا وهو يكفر الديمقراطية الغربية كما كفر أيضا حتى وقت قريب العلمانية ومدارسها والماركسية وحركاتها واليسار واليمين والوسط وكذلك الإخوان والتحرير والصوفية والسلفية المرجئة والسرورية وكل المذاهب الباطنية والظاهرية ( انظر الان كل شيء بات ممكن ) بعدما فتحت الأبواب على مصاريعها لركوب سفينة التفاوض والحل السياسي بالبدلة الرسمية حيث نسي الجولاني سريعا موضوع الكفر والإيمان كما كان يتهرب من بعض أسئلة ضيفه الصحفي الأميركي سميث عن الديمقراطية وكان يقول له تشرب " إسبريسو" ولا " كابتشينو" يوجد " أمريكانو " لدينا أيضاً

هذه المعلومات التي توصلت إليها هي الأدق عن " أبو محمد الجولان باسمه الحقيقي ( أسامة العبسي الواحدي ) حيث ولد عام 1981 في بلدة الشحيل التابعة لمدينة دير الزور التحق بكلية الطب في جامعة دمشق حيث درس الطب البشري سنتين ثم غادر إلى العراق وهو في السنة الجامعية الثالثة لينضم إلى فرع القاعدة في العراق تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي زعيم التنظيم وهناك ارتقى الجولاني بسرعة في صفوف التنظيم حتى أصبح من الدائرة المقربة من الزرقاوي وبعد اغتياله في غارة أميركية عام 2006 خرج الجولاني من العراق إلى لبنان حيث يعتقد أنه أشرف على تدريب تنظيم " جند الشام " المرتبط بتنظيم القاعدة

ومن لبنان عاد الجولاني مجددًا إلى العراق واعتقل من قبل قوات الاحتلال الأمريكي وأودع في سجن بوكا ثم أطلق سراحه في العام 2008 إلى أن عاد واستأنف نشاطه العسكري مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وانخرط الجولاني في التنظيم حتى أصبح رئيس لعملياته في محافظة الموصل العراقية

في عام 2012 أصدر الجولاني بيانًا أعلن فيه تشكيل جبهة النصرة لأهل الشام واتخذ من منطقة الشحيل منطلقًا لعمل هذه الجبهة وصار من يومها الجولاني يدعى في أدبيات الجبهة المسؤول العام لجبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة في سوريا

حتى الساعة الولايات المتحدة تصنف جبهة النصرة منظمة وجماعة " إرهابية " وقد تم استهدافها بغارات جوية من قبل التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن مرات عدة كما قصفت موسكو مواقع عدة في سوريا لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وجبهة النصرة

ولازال الجولاني على رأس قائمة المطلوبين لأمريكا ويوجد هنالك حساب رسمي موجه للعموم ومرفق برقم هاتف مضمونه يقول ( أرسل لنا معلوماتك عن الجولاني لتحصل على مكافأة 10 ملايين دولار ) كما نشرت صفحة " المكافآت من أجل العدالة " التابعة لوزارة الخارجية الأميركية تعليقاً ساخراً تقول فيه ( مرحباً أيها الجولاني الوسيم يا لها من بدلة جميلة يمكنك تغيير ملابسك لكنك ستكون دائماً إرهابياً لا تنس مكافأة الـ10 ملايين دولار(

وخلاصة الخلاصة نقول بكل صراحة كان بمقدور الجولاني ان يختصر الطريق لتلميع صورته المنفتحة وأن يلتقط مثل تلك الصور ببدلته الرسمية في عام 2011 ويجنب الشعب السوري كل تلك المزاودات والموت والدمار والتحولات وهو يواصل طموحاته وسياسته وتقلباته في بناء مستقبله دون أن يمشي على ( رفات الثورة و جثث الثائرين ودماء الأبرياء وعذابات المساكين )

ومن المؤسف ان مثل هذه التحولات الارتجالية والهزلية جعلت الكثير من المراقبين والمتابعين يتوقعون وبعد ( كسر كل الصور النمطية عن قادة التنظيمات الجهادية ) بأن يكون التحول الدرامي المقبل والتطور القادم ( لمستر جولاني ) ظهور فريد من نوعه مع الإعلامية الأميركية " أوبرا وينفري" ببدلة أكثر عصرية وأناقة وقصة شعر متدرجة أو مارينز ويتخلل المقابلة بعض لقطات السيلفي المشتركة للأرشيف الجهادي وللذكرى الثورية للمقاتل المتحول

وفي الختام خير الكلام في هذا المقام قول الإمام علي رضي الله عنه ( من طال أمله ساء عمله ومن صارع الحق صرعه والغالب بالشر مغلوب )
mahdimubarak@gmail.com