سيكولوجيّة العقل الباطني


"الرجال الذين سيولدون بعد الممات ـ أنا على سبيل المثال ـ سيسوء فهمهم أكثر من المطابقين لعصرهم، لكنه سيُسمع إليهم بصفة أفضل.

ولنقلها بأكثر صرامة: لن يُكتب لنا أن نُفهم البتة؛ من هنا تكون سلطتنا. فريدريش نيتشه"
إن المُبحر في سفينةِ الفلسفة في بحر لُجِيّ دون معرفةٍ بأهواله؛ ستتلاطمه أمواج أفكار، ورؤى لامتناهية لا قبل للعقل البشري البسيط الخروج منها بأقل مِن ذهاب ما تبقى عنده مِن استيعاب، وسيدخل عقله في متاهة لامتناهية من تضارب أفكار لا قبل لعقله الخوض بها، فيخرج منها دون أي معرفة أو علم؛ لقصر عقله عن هذا العالم.

إن المتأمل في سيكولوجيّة الحياة يعتقد أنها قائمة على الكآبة والألم والمعاناة، وهي لاتنفك تبعث الحزن والقلق والاضطراب ، فإجماع الحكماء والفلاسفة على وصف الحياة بهذه الصفات، ونظرتهم السلبيّة للحياة بأنها لا قيمة ولا معنى لها، ماهي إلا أعراض تشبهُ أعراض المرض لا قيمة لها، وهي نظرة قاصرة عن المعنى الحقيقي للحياة، ولو لم يكن لها قيمة لما أوجدها الله ـ عزوجل - مِن العدم، فمن يطلق مثل هذه الأحكام ما هو إلاّ كائن قبيح الفكر، لا ينفك ينطوي على الرذائل والشهوات الفكرية المتعصبة، واضطراب وفوضى في غرائزه، وهلوسات فكرية عشعشت في عقله الباطني، ويكمن داخله المكر الدفين، والسرية الدهليزية. فقد انهزم الذوق الرفيع، وارتقى مكانه الرعاع بفضل الديالكتيك، فقديمًا كانت السلوكيات الجدلية تقابل بالرفض داخل الأوساط الراقية، وتعتبر من العادات السيئة في مجتمعاتهم التي تقلل من قيمة صاحبها، وكل من يعتمد على الجدل لا يأخذ بآرائه، فلا يصل الإنسان إلى وسيلة الجدل في أفكاره ونقاشاته إلا الذي لم يعد لديه دليل أو برهان على صدق ما يقول، فهو سلاح في يد من لا سلاح لديه، فمعيارصدق المعرفة يكمن في مدى اقترابها من الحقيقة، والحقيقة غير قابلة لأي نوع من أنواع الجدل، إنها تُقبل كما هي، ويستطيع الإنسان بذكائه أن يخضع عنق الحقيقة لمقصلة تفسيراته، وهذا إذا ما كان مفكرًا، واعيًا، واضحًا، لا حكم لأهوائه على المنطق؛ لأنّ فساد المعرفة يتبيّن في وجود بصمة داكنة من الإنسان وراء الغرائز، وهذه البصمة دائمًا ما يكون نتاجها الاقتراب من السقوط.

من يحارب ويكافح الأذكياء لصالح فقراء العقل لا يمكن أن يشن حربًا ضد الأهواء و الشهوات، واستئصالها هو استئصال للحياة نفسها، فمن يعمل على علاج الأهواء والشهوات بالبتر، هو كمن يمارس الكبرياء والنزوع على السيطرة، فهو بحاجة إلى (الأتراب)؛ لضعف الإرادة لديه، فالحب هو عقلنة الرغبات الحسية لدى الإنسان مع عقلنة العداوة لكل من هو ناجح في حياته ما هما إلّا انتصاران على مَن يدّعون الاستئصال والبَتْر. والعداوة شيء رئيس في السياسة، فكل حزب ناجح يقترن نجاحه بوجود أعداء له؛ ليبقى متحفز دومًا إلى العمل والتقدم ؛ ليبقى ناجحًا، كما هي الدول المتقدمة فهي بحاجة إلى أعداء أكثر من حاجتها إلى الأصدقاء، وهذا ينطبق على عدونا الداخلي، فالمرء لا يكون ثريًا ناجحًا إلا بما يكون له من ثراء النقائض. فإذا ما أراد المرء أن يبقى فتيًا فلا يجب أن يخلد للراحة و (سلام الروح)، وهو الإتباع الناعم لحيوانيّة ثرية داخل المجال الأخلاقي أو الديني، أو الامتنان اللاوعي لحالة هضم سعيد، أو وهنّ الشيخوخة الذي يطرأ على إرادتنا و شهواتنا و رذائلنا، وإذا ما لجأنا إلى الخلط بين السبب والنتيجة فإننا نتجه إلى الفساد الحقيقي للعقل. الإنسان ذو التركيبة السليمة إنسان سعيد في حياته فهو يجسد بفزيولوجيته الفطرية غير الممزوجة بشوائب التناقضات، داخل إطار علاقاته مع الأشخاص و الجمادات المحيطة به، وعلاقته أيضًا مع نفسه، سعادة روحانية لا متناهية يكون عمادها الضيلة؛ فسعادة الإنسان هي نتاج حتمي لفضيلته النقية، فكل الضغوطات والتوتر والانفجار ماهو إلا نتيجة إثارة غريزة السببية داخلنا، فعندما تسيطر علينا حالة نفسية ما فإننا نبحث داخل عقلنا الباطني عن سبب لهذه الحالة، وأحيانًا تتدخل الذاكرة الباطنية في عقولنا ؛ لجلب مواقف وحوادث لتبرر حالتنا، وتدخل الدافع والإدراك في عقلنا الباطني هو من دفعنا لجلب هذه الذاكرة المختزلة داخلنا؛ لتبرير ما نحن عليه.
إن الإصلاح الذي ينادي به الفلاسفة ماهو إلاّ التخلي عن كل مقومات القوة الداخلية، والاستسلام إلى الضعف والهزل الفكري، والانقياد والانصياع، وطاعة عمياء دون مبرر.

فمحاولة الوصول إلى الرقي، والذوق الرفيع، بحاجة إلى النظر، والتفكير، والكلام في تعاملنا مع الأشياء المحيطة بنا، فجمال الكون كله مختزل في جمال الإنسان، وهو الأنموذج الأوحد للجمال، فعند التحول إلى فساد العقل؛ يصبح الجمال قبحًا، والقبح يضعف ويعكر صفو الإنسان ، ودائمًا ما يذكره بالعجز والانهيار في قواه الداخلية من إحساس و إرادة.

فإذا ما استطاع الإنسان جعل أنانيته ونرجسيته تمثل خط الإرتقاء، عندها تكون قيمته خارقة للعادة، وإذا ما سيطر عليه الانحدار والتدهور، تصبح قيمته منحطة تافهة. فعندما يضع الإنسان نفسه في المواضع التي لا تليق به يصبح عندها كالبهلوان الذي يضحك الآخرين دون وجود قيمة لما يعمل، فاختر دائمًا أن تضع نفسك في الأماكن التي تقدر قيمتك.

" على المرء أَنْ لا يستسلم البتة إلى الإهمال حتى أمام نفسه، فالأشياء الجيدة غالية بما لا يقاس بثمن . فالذي يمتلكها يظل غير الذي يكتسبها. فكل ماهو حسن موروث؛ وكل ما ليس موروثًا ناقص، مجرد بداية. فريدريش نيتشه".



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات