وصفي التل إيقونة وطن لم يغيبها الرحيل !


تحل بنا الذكرى التاسعة والأربعون لاستشهاد رئيس الوزراء الأسبق المرحوم وصفي التل الذي اغتيل في القاهرة أثناء مشاركته بمؤتمر وزراء الدفاع والأركان العرب والتي صادفت يوم السبت الماضي 28 /11 / 2020 والذي يعتبر من أهم الرجالات والرموز الوطنية في تاريخ الأردن منذ قيام الدولة عام 1921 لقربه من الشعب وبساطته وتواضعه وشجاعته ونظافة يده وقيادته الحكيمة

معظم أبناء الشعب الأردني يتغنون بهتافات مقترنة باسم وصفي التل في مواقع مختلفة حتى اليوم ويعتبرونه أسطورة الأردن الراشدة إنسانيا وقيميا واخلاقيا ومهنيا التي لن يكررها التاريخ ولا في أي مرحلة او زمان ومكان لعقلانيته حنكته ورجولته وعشقه للأردن والأردنيين الذين يجددون في كل عام وفائهم ومحبتهم وقربهم من وصفي باعتباره ضمير الأردن والمسؤول الذي حمل همومهم وشعر بمعاناتهم وأوجاعهم حيث كان جندياً شجاعاً يعشق رفاق السلاح ويعتز ويفاخر ببطولاتهم ويؤمن بدولة المؤسسات والقانون ويحترم القبائل والعرف العشائري الإيجابي الذي يجسد أسمى معاني الرجولة والإباء والحكمة ليكون رديفاً لمؤسسات الدولة وصمام الأمن والأمان لاستقرار الوطن وصون منجزاته

وقد اعتبر وصفي التل من أبرز الشخصيات السياسية الأردنية منذ توليه منصب رئيس الوزراء في عام 1962 والذي فرض حضوره بشكل لافت على المستوى المحلي والإقليمي العربي ولا يستطيع أحد ان يقلل من أثره حتى لو كان من خصومه في البعدين السياسي أو الفكري حيث أصبح نمطا فريدا يستحق الاحترام والتقدير ومثلا أعلى لرجال الوطن الشرفاء الذين يغارون عليه ويحمون مكتسباته ويسعون لنهوضه وازدهاره وبالرغم من مرور تسعة وأربعين عاما على استشهاده لا زال اسمه يتردد بحب وشوق أثيري ولا زالت مواقفه الحاسمة في مكافحة الفساد والفاسدين وجور المسؤولين وتسلطهم على الشعب تستذكر بمهابة وإجلال وتقدير والكثيرون يروا إن الأردن تراجع من بعد وصفي التل وان مقعده ما زالا شاغرا حتى وقتنا هذا فهو استحق لقب دولة عن جدارة واقتدار فلم يكن يحمل شخصية كبير موظفين ولم يكن خاضعاً لوصاية جهة ولم يرخ ِ قبضته على اي مجال من مجالات الدولة الحيوية ولم يكن يتهاون بتحويل البلد إلى مشيخات أو هيئات مستقلة للتكسب وتنفيع الأقارب والمحاسيب

من إنجازات حكومات الرئيس وصفي التل في مجال الزراعة والمياه والغابات شق قناة الغور الشرقية التي يطلق عليها الآن " قناة الملك عبد الله " التي تشكل العصب الرئيس للزراعة في الأغوار وإنشاء الطرق الزراعية ومنع البناء في المناطق الزراعية ووقف الزحف العمراني عليها تحت المساءلة القانونية لقناعته بأن المملكة قادرة على الاكتفاء ذاتيا علاوة على عقده لقاءات دورية مع المزارعين للاستماع لمشاكلهم والعمل على حلها كما عرف عنه عدم تساهله مع قاطعي الأشجار بقصد التحطيب والبيع وطالب القضاة بتشديد العقوبات على من يضبط وهو يعتدي على الثروة الحرجية معتبرا أن الاعتداء على الشجر كالاعتداء على البشر وقد اهتم بتطوير الأردن على مختلف المجالات خاصة الزراعة حتى بات يعرف ( بابي الزراعة )

ولم يقتصر اهتمام الراحل الكبير على الزراعة حيث كان يؤمن بأن الشباب هم عماد مستقبل الأردن وكان لهم أهمية كبيرة لدى حكومته حيث أسس مدينة الحسين للشباب التي كانت المتنفس الوحيد للشباب والأندية الرياضية ومؤسسة رعاية الشباب ومعسكرات الحسين للعمل والبناء ودائرة الثقافة والفنون كما اهتم بالإعلام حيث تأسست الإذاعة الأردنية في عهد حكومته لتكون نواة الإعلام الوطني القادر على الإسهام في رفع وعي المواطنة الحقيقية بالإضافة إلى إنشاء صحيفة الرأي التي لا تزال تعمل حتى اليوم بعد دمج بعض الصحف اليومية

لم يترك وصفي التل خلفه قصورا ولا رصيدا بالملايين ولا شركات ولم يترك إلا منزلا صغيرا وسيدة فاضلة وبضع دنانير وقليل من التبغ وجد في جيبه يوم اغتياله وقد تعلق الشعب الأردني به وسيطر على عقولهم و قلوبهم وذكراهم رغم وجود عشرات المسؤولين ورؤساء الحكومات الذين مروا في تاريخ الأردن ولم يحظ أحدهم بما حظي به وصفي

بعد تخرجه من الجامعة الأميركية بيروت عمل مدرسا للكيمياء والفيزياء ومن ثم تنقل في العديد من المناصب الرسمية في عمان والقدس وأريحا ولندن وعمل دبلوماسيا في السفارات الأردنية في موسكو وطهران وبغداد قبل تكليفه بتشكيل الحكومة

في ذكرى رحيل القائد الفذ والمعلم الملهم والقامة الشامخة مدرسة الوطنية والعروبة والصمود والتحدي حامل المشروع القومي النهضوي لمواصلة الكفاح والنضال في مواجهة لاحتلال ودحر الاستعمار الرئيس وصفي التل صاحب الكاريزما الفريدة التي عز مثيلها في نفوس الأردنيين بما حمله واستقر في ضميره ووجدانه من وفاء وإخلاص وولاء لوطنه وأمته والشعب الأردني والذي ترجمه رحمه الله إلى أفعال صادقة ومنتجة انعكست على نهضة ورفعة ومكانة الأردن محليا وإقليميا ودوليا

لقد سعى التل بكل أمانة وحرص لاستثمار مدخرات الوطن من اجل مستقبل الأجيال دون البحث عن إي مكاسب شخصية او محاباة لأي شخص أو جهة حيث كان يشجع الأردنيين على ممارسة الزراعة واستصلاح الأراضي واستثمارها والمحافظة على الخيرات العظيمة المكنوزة فيها وقد كان دائما ضد قرارات رفع الأسعار وزيادة معدلات الضرائب والاقتراض الخارجي والارتهان للمؤسسات المالية الدولية لأنه كان واثقا بأن المملكة لديها قدرة إنتاجية تمكنها من الاعتماد على ذاتها ورعاية مواطنيها ورفع من شأنهم وتحقيق التنمية لبلادهم وحمايتها وصيانتها

وقد التقط وصفي التل بوعي ثاقب رؤية المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال في مجال تطوير التعليم من خلال تأسيس أم الجامعات " الجامعة الأردنية " حيث كان يهدف إلى إنشاء جيل متعلم محب للعمل والإنتاج ومسابقة الزمن في تحصيل أرقى مستويات العلم والتقدم الذاتي المفعم بالانتماء للوطن وما زالت بعض انجازاته شاهدة على عبقريته وبعد نظره وحكمته التي سبقت زمانه

وبالرغم من محاولات البعض اتهامه بالإقليمية والعنصرية البغيضتين على نفسه إلا أن أكثر من نصف أعضاء حكومته كانوا من أصول فلسطينية وقد كانت حكومة نموذجية واستثنائية في تاريخ الأردن إذ لم يسبق لأي من أعضائها أن كان وزيرا بما في ذلك الرئيس وقد أجرت الحكومة في حينه مصالحة وطنية كبرى بين المعارضة والحكم وأصدرت عفوا عاما عن المعتقلين المحكومين والمنفيين السياسيين من جميع الأطياف مما اوجد أجواء ايجابية سمحت بإجراء انتخابات نيابية جديدة كانت ديمقراطية ونزيهة

لقد كان وصفي من أكثر الحريصين على القضية الفلسطينية والداعمين للمجاهدين والمناضلين والراغبين في الاستشهاد فوق ثرى فلسطين الطهور ومن اجل ذلك هيأ الوطن للاستعداد والتدريب لمواجهة العدو الصهيوني والمستوطنين الغزاة وقد سبق له ان التحق بالكلية العسكرية البريطانية قرب مدينة يافا عام 1942 وتخرج منها برتبة ملازم وأمضى بعدها ثلاث سنوات في الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية رقي خلالها إلى رتبة نقيب ومن ثم التحق دون تردد بالمكتب العربي بالقدس ومن خلال موقعه وضع التقارير العسكرية والعلمية الدقيقة حول مخاطر الصهيونية على فلسطين واقترح تشكيل قوة عسكرية فلسطينية مدربة ومسلحة تعمل على مقاومة اليهود وفق أسلوب حرب العصابات والاستنزاف

وقد كان أول من أطلق شعار "عمان هانوي العرب" أي جعل عمان عاصمة النضال الفلسطيني وكفاحه في سبيل تحرير الأرض المغتصبة وقد امتاز الراحل بإيمانه بالعمل العربي المشترك والتصدي للأخطار التي تواجه الأمة العربية بأسرها ودعمه لكفاح الشعب الفلسطيني المسلح في سبيل تحرير أرضه ووطنه وقد استلهم حبه لفلسطين من والده الشاعر الكبير مصطفى وهبي التل " عرار" الذي طالما تغنى بفلسطين في قصائده وحذر من وعد بلفور المشؤوم كما يذكر أن وصفي التل كان يسعى جاهداً إلى عدم تهييج الهويتين الأردنية والفلسطينية او صدامهما لمعرفته التامة بمدى خطورة ذلك والنتائج السلبية في انقسام الضمير الوطني لأبناء الشعب الواحد

وصفي التل كان يجسد شخصية رئيس الحكومة الحقيقي الذي يملأ موقعه باقتدار ويتحمل كامل مسؤولية هذا الموقع الذي يحددها الدستور ويقوم بواجب إدارة الدولة بكل شؤونها ومجالاتها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية على المستوى الداخلي والخارجي دون استثناء وكان يرفض بالمطل أن يكون رئيس الحكومة منقوص الولاية والصلاحية أو مجتزء السيادة على شؤون الدولة الأردنية وتفاصيلها

لقد كان رحمه الله قامة وشخصيّة عربية واثقة بطعم أردني متميز فقد أسهم في بناء الأردن الدولة وإبراز الهوية الوطنية التي لا تتعارض مع الانتماء العروبي الشامل ولا تجنح نحو الإقليمية الضيقة والضياع وبما لا تتناقض مع الأحاسيس القومية الفطرية السليمة ولا مع منظومة العمل العربي المشترك وضرورة تحمل المسؤولية تجاه قضايا الأمة المصيرية وقضاياها الكبرى وقد عمل جاهدا على تأسيس وإحياء التراث المحلي على صعيد الأغنية والاهزوجة الأردنية وكان يحرص ويشرف بنفسه على كتابة كلمات الأغنية الوطنية ويبحث عن اللحن الوطني المميز الذي يعكس اللهجة الأردنية الأصيلة والممزوجة بمعاني الخلق والشهامة والرجولة ثم يشير إلى عرضها بطريقة بسيطة ومحبّبة تعكس العادات والتقاليد الأردنية الأصيلة والمحببة

وفي خطابه الشهير لنيل الثقة أمام مجلس النواب في حكومته الأخيرة قال ( إن المواطن الذي يعيش في أمن حقيقي هو وحده القادر على العطاء وهو الذي يعرف كيف يموت بشجاعة في سبيل بلده وقضيته أما المواطن الذي يعيش في الرعب والفوضى فلا يملك شيئا يعطيه لبلده أو قضيته أو حتى لأحد من الناس او نفسه )

أملنا الأخير ونحن جميعا نحي ذكرى المرحوم الشهيد وصفي التل ان ندعوا بكل إصرار والتزام الى تطبيق أهم صفاته وهي الحزم في التعيينات بعدالة ونزاهة وحيادية حيث لا واسطة ولا محسوبية وفق مسار ونهج وسياسة وصفي القيم حيث منع الواسطة في التعيينات من اجل ان يتقدم الأردن ويديره خيرة الكفاءات المتعلمة من أبنائه

وبقلب المسلم المحتسب وبلسان المؤمن بالقضاء والقدر وعند سفره ووداعه أهله ووطنه الى حيث انتهى اجله قال وصفي ( ما حدا بموت ناقص عمر الأعمار بيد الله ) كان ذلك في معرض رده على تحذير مدير دائرة المخابرات العامة آنذاك نذير رشيد عن وجود نوايا لاغتياله وقد صدق حدسه وتوقعاته ففي عصر يوم 28/11/1971 سقط ستشهدا حين اخترقت رصاصات الغدر والخيانة والإثم جسده أمام مدخل فندق الشيراتون في العاصمة المصرية القاهرة لتنهي حياته وتخلد ذكراه عشرات السنين وصفي التل عليه رحمة الله وغفر له كان رجل دولة من طراز رفيع اجتمعت فيه كل الصفات الحميدة و المطلوبة بأي مسؤول لذلك دائما يستذكره الأردنيون بكل فخر ومحبة واعتزاز
mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات