وصفي أكبرُ من وصفي


وصفي .. ثمّ وصفي .. ثمّ وصفي ..
ما زالَ داليـة فينا ، ظلالها بنَدى الأردن نسقيها ..
وصفي ويكفي بأنَّا حين نذكرهُ .. نزدادُ فخراً ، ونزهو باسمه تيها ..
فقد أضاءَ الدّمُ الغالي الدروبَ لمن .. ظلّوا الــدُّروب وغابوا في دياجيها
وصفي ، ذلك الرّجلُ الذي خلّدهُ التّاريخ الأردني ، وحملته القلوب قصة وطنٍ ومشروعُ نهضة شامل ومؤسسة وطنية قائمة بذاتها ، وبكت عليه الأرضُ سنابلُها ومنازلُها ، وأرخَتْ على قبره جدائلُ سرو السَّلط أفنانها ، وخَمائلُ قمح إربدَ حبَّاتها.
وصفي ، تلك القامة الأردنية التي عزَّ نظيرها ، والظّاهرة الفريدة التي أغنَت قاموسَ البسالة والبطولة الوطني بمجدٍ وفخارٍ ؛ فلم يًقدِّمُ على الوطنِ إلا الوطن ، ولم يسلك إلى إعلاء الحَقِّ إلا كلمة الحقِّ ، ولم تئنُّ لأوجاع بني قومه إلا زفراتُه المُرهقة ، النَّابعةُ من صميم أردنيّته الحقيقية ، التي ضاقتْ عن كلِّ ضيمٍ ومهانة ، واتَّسعتْ بكبريائها وتواضعها لكلِّ الجباه السُّمرِ ، التي عفَّرها ثرى الوطنِ الطاهَر ، وعطَّر هاماتها دمُ الكرامة الأبيَّة ؛ وقد صدق فيه ما قاله الشّاعر:
وكم رجلٍ يُعَـدُّ بألفِ رجلٍ .. وكم رجلٍ يمرُّ بلا عِـدادِ
وصفي ، حاملُ لواءَ الحقِّ والنِّضال ، والمنافحُ عن كلِّ شبرٍ من أرضِ الأردنِّ ، بطحائها وفيحائها ، والثابتُ على مبادئه الوطنية السّامية ، وعقيدة المسؤولية والواجب المقدَّسة ؛ فلا يؤخِّرهُ عن واجبه شفيرُ نار ، ولا يزعزعُ إرادته على خوضِ المنايا الضَّاريةِ لإحقاقِ العدلِ تخاذلٌ أو تباطؤ أو وشاية ؛ فقد كان المسؤولَ الرائد ، والقائدَ الصَّامدَ ، الذي لم يُشَقُّ له غُبار ، ولم يبخلْ بأمانته وإخلاصِه المُطلق لرسالة المسؤولية ، أن يستنبتَ الصحراءَ المُقفرة ليوشِّحها ببساطٍ أخضر ، أو أن يشدَّ عروقَ الأيدي البانية في وطنه ، ليبني صروحَ العلم ، ويُغمد نقمة المتعالين على هذا الوطن ، الصّغيرُ بجغرافيته والكبيرُ برجاله ؛ تلك كانت إمضاءته ، ليس بالقلم بل بالعمل.
وصفي ، الصَّوتُ الجهوري الرخم ، الذي لم تستهويه منابر الخطاب ، ولم يأخذهُ كِبَر المنصب ، ليتخلى يوماً عن أدقِّ التفاصيل والفضاءات التي يعيشُ الشَّعبُ في فلكها ؛ فقد حرصَ أن يكونَ – بحكم مسؤوليته – قوتُ المواطن ودواؤه وغذاؤه ، وأغنية الوطن التي تبذرُ الأملَ في النفوس ، وتُكبِرُ فيها لــذَّة الانتماء ، وتحظُّها على استمرارية الوفاء ، وتُعمِّق فيها أولويات الهوية الوطنية ، والمضي الواثق نحو المستقبل المُشرق.
وصفي ، السياسي والعسكري ، الذي نالَ ثقة الراحل المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه بكل جدارةٍ واقتدار ، نظراً لما تميَّز به من وطنيةٍ رفيعة المستوى ، وروحٍ وثابةٍ إلى العمل ، وصدقٍ عميقٍ مع الذَّاتِ والوطن والقيادة والشّعب ، كان يتمثَّلُ واقعاً سُرعان ما تحطُّ عوائدهُ على فضاء الوطنِ ، ولا تبقى محضَ أوراقٍ وأحلامٍ ووعود حبيسةَ النُّهى والأدراج ؛ فمنذُ لحظاته الأولى في مشوار العمل القيادي سياسياً وعسكرياً ، استلَّ سيفَ العمل ، وأخذَ على عاتقه أنَّ المحن مصانع الرجال ، وأنَّ زادَ المعالي يأتي من فقرِ الحالِ والأحوالِ ، ومشى في مسيرة السياسة والتنمية والبناء بكلِّ عزمٍ وجديَّةٍ وحزم ، وانبرى لمجد البلاد ونهضتها وسموِّها ، لا ينظرُ إلا إليه ، ولا يرى سواه ؛ فلم يكن وصفي من الرجال الذين تُلهيهم مناصبهم عن خدمة الوطن ، ليديروا ظهورهم إليه ، ولا من الوصوليين ، الذين اتخذوا أوطانهم سلَّماً يصعدون عليه إلى حيث الجاه والمال.
وصفي ، نذكرك اليومَ بعد بضعٍ وأربعة عقودٍ من الزَّمان ، كان غيابك فيها الجرح الأردني الذي لم يطبْ بعد ، فلا باقات الغار وأكاليل زهرِ الوطن ضمَّدته ، ولا رائحة الوطن التي تشمُّها الأرضُ من عبق ضريحك لملمته ؛ ذكرى جُرح ، وجرحُ ذكرى بات مغروساً فينا كالسيف ، يؤلمنا متى ما أجهشت العيون بالبكاء ، وينزعُ أرواحنا متى ما وقعت عُيوننا على الصَّاغرين الأذلاء في زمانٍ ليس كما تشاء.
وصفي ، الكُلُّ حين تأتي ذكراك ، يقفونَ شاخصين يُمعنونَ النَّظرَ في قَسماتِ وجهك العروبي ، وملامح شخصيتك العبقرية ، ويستنشقون منك روائحَ الحرية والعزِّ والخلود ؛ الكُلُّ هنا يراك ذلك الفارس الذي قشعَ ضباب اللامبالاة ، وأعلى شأن المسؤولية ، وردَّ الكيد ومكر الماكرين عن هذا الوطن الأبي ؛ الكلُّ يتنسَّمُ أنفاسك التي رقَتْ على نعشِ الشهادة إلى ربِّها ، ويراك قادماً نحوه ببزَّتك العسكرية ، ممتشقاً عنفوان الموقف ، وأصالة المبدأ ؛ يقفون باكين على ما آل إليه الرجالُ في هذا العصر ، يرددون ما قاله الشافعي:
كم مات قومٌ وما ماتت مكارمهم ... وعاشَ قومٌ وهم في الناس أمواتُ
وصفي ، نذكركَ وسنبقى نذكرك ، ونحنُّ إلى عهدك الذي لم يمتد في عمر الزَّمان كثيراً ، لكنه يمتد في عمر الذاكرة والوطن وأبطاله أجيالاً وأجيالاً ، كلما جاء قومٌ ورَّثوه لمن بعدهم ، وكلما أُطلقت رصاصة أو طرق السَّمعُ جنزير دبابةٍ استحضرتك العسكرية ، واشتهتك الراية التي اشتهيتها ، وقبَّلك التًّرابُ الذي وقفت عليه بصلابةٍ وقوةٍ وشموخ ؛ لقد أصبحت حكاية كلِّ عاشقٍ للحقِّ والحرية ، ومثالاً لكلِّ طامحٍ إلى بلوغ المنى.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات