الوزير الحلالمة وشجاعة تحمل المسؤولية


الم يقل رسول الله صل الله عليه وسلم في جزء من الحديث النبوي الشريف لأبي ذر الغفاري عندما طلب الولاية ( إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة ) حقّا إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من كان أهلاً لها فأخذها بحقها وأدى الذي عليها بتوفيق اللَّه ومعونته

كثير من المراقبين للمشهد الداخلي اعتبروا قرار رئيس الوزراء بشر الخصاونة ضم اللواء الركن الأسبق والعين السابق توفيق الحلالمة الى فريقه الوزاري خيارا موفقا لما يملكه الرجل من خبرة أمنية وإدارية طويلة وناجحة تشهد له بالكفاءة والاقتدار فضلا عن انه شكل إضافة تكنوقراطية جيدة للحكومة في واحدة من أهم الوزارات السيادية الثقيلة والذي لم يدخلها بكشرة معقدة لدواعي إثبات الذات والهيبة الفارغة ولم يحمل في جيبه أجندة خاصة لتصفية الحسابات بالنقل والإقالات

وعلى الرغم من ان نتائج الانتخابات كانت مخيبة للآمال وان البعض فقد نصف مرشحيه وآخرين خرجوا صفر اليدين والكثيرين فازوا بشراء الضمائر والأصوات ولذلك ينبغي ان تكون فرحتهم المقلقة غير مشروعة بما فعلوا بالوطن والناس من ترويع وعربدة واستعراض وتجاوزات

في سابقة انفلات امني مخيفة وخروج على هيبة الدولة والقانون بجراءة وتصميم منظم قامت فئة قليلة بتلويث المشهد الوطني النقي بعدما استباح بعض من القوم كل المحذورا ت والمحظورات في مواكب مزعجة وهستيرية اخترقت السكون وأرعبت الساكنين بإطلاق النار المتواصل من مختلف الأسلحة الرشاشة وكأننا في ساحة حرب مستعرة وكل ذلك جرى برعاية ومباركة مرشحين للانتخابات سرعان ما فازوا بعد إعلان النتائج ناهيك عن احتجاجات وتجاوزات مخجلة قام بها أقرباء وأنصار بعض المرشحين ممن لم يحالفهم الحظ بالفوز

وبعد جميع هذه الممارسات والأحداث المؤسفة وغير المسؤولة التي قام بها البعض في غير منطقة والتي انتشرت فيديوهاتها على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وعقب الغضب الملكي الجامح وفي صحوة ضمير نادرة وبإرادة محضة وقناعة شخصية كاملة وحرة ودون أن أية ضغوطات من أي جهة كانت وتحملا لمسؤولية الأدبية والأخلاقية والسياسية قرر وزير الداخلية توفيق الحلالمة الاستقالة من منصبه غير آبه للقبه ورتبه ومراتبه الأمنية والعسكرية والمدنية فالوطن كان عنده أهم وأولى في خطوة عقلانية لافتة لتكريس واشاعة قدسية تحمل المسؤولية وتعظيم سلوك احترام النفس وترسيخ القيم النبيلة وتعزيز مفهوم الاستقالة بأنه ليس ضعف او هزيمة بقدر ما هو قوة ومسؤولية يجب أن تسود في مرحلة قل فيها الشرفاء وكثر الفاسدون والمفسدون

لقد قبل وزير الداخلية المستقيل بوعي متوقد وشرف عظيم دفع الثمن السياسي لتلك التجاوزات التي أثارت عاصفة جدل بعد تشويه المسيرة الانتخابية والتي أظهرت ضعف التزام الدولة بمعايير أوامر الدفاع والحظر الشامل وتبديد الجهد المبذول في مواجهة فيروس كورونا في وقت كان بإمكانه الاختباء خلف بعض العباءات او رفض الأخطاء أو تحميل وزرها لغيره كما فعل الكثيرون من قبل وقد كان في كل ما قدمه عبر بيانه الأخير واقعياً في زمن المزايدات وصادقاً في زمن الرياء حول ما أثير من معلومات وأقاويل تفتقر الى الصحة والمصداقية بشأن استقالته

توفيق باشا الحلالمة القائد العسكري الفذ والمؤسس والمدير الأول للمديرية العامة لقوات الدرك وعضو مجلس الأعيان السابق الذي شغل منصب وزير الداخلية منذ 12 تشرين الاول الماضي خلف فينا رصيدا وطنيا رائعا وقصة شجاعة نادرة كرجل من طراز فريد في الصدق مع الذات واعتماد الجرأة والمجاهرة في قول الحق دونما انتظار مقابل وهو الذي أنجز مهامه العملية في كل المستويات والممسؤوليات التي تولاها بكل جدية وإتقان وإخلاص حينما كان يسخر جميع إمكانياته وطاقاته وقدراته لخدمة وطنه ومليكه وهذا ما لا يجادل فيه كل عادل ومنصف ويشهد له القاصي والداني بأنه قامة وطنية كبيرة مسكونة بهواجس الوطن والآمة رجل دولة تحمل المسؤولية بكفاءة وأمانة ولم يتستر على الأخطاء التي حصلت خلف رئيس الحكومة ليتحملها عنه حسبما جرى علية العرف والعادة

للتذكير فقط كم الإحداث الجسام والمؤلمة الكثيرة التي مرت فيها البلاد ورفض بعض الوزراء تقديم استقالاتهم رغم مطالب وضغوط الرأي العام وهم يتخبطون ويحاولون بطرق غير مباشرة تبيض صورهم وتغطية إهمالهم والتستر على عيوبهم ومقابل ذلك يتساءل العديد من الناس هل من العدل والإنصاف والمنطق أن يتحمل وزير الداخلية وحده تبعات كل ما جرى ويقولون بوضوح اكبر أليس هنالك العديد من الأجهزة والمديريات والدوائر التي تتشارك في تطبيق أوامر الدفاع وإنفاذ القانون ويجب ان يكون لهم حصة من كعكة المسؤولية الأدبية والمجتمعية الجسيمة او غيرها

سيتذكر الشعب الأردني ويكتب في سجلاته الخالدة هذا القرار والموقف لهذا الرجل الشجاع ابن السادة الكبار وصاحب المواقف الكبيرة دائما فلا غرابة بان يعلن استقالته ويذهب إلى بيته ويريح ضميره بعدما ماتت كثير من الضمائر في وطني وهي لا زالت على قيد الحياة حقا وصدقا لقد زرع الباشا الحلالمة الأمل في النفوس الباحثة عن الحقيقية وهو يقدم نموذجا للسياسي الذي لا يلجؤه المنصب الى الصمت وشهادة الزور ولم يعتبر استقالته انسحاب لا تليق بالفرسان وهو الفارس المغوار في كل الميادين والمواقع وقد شهد فيه حقا وعدلا وصدقا من عرفوه بانه رجل عف اللسان ومن خير من استخدم الكلمة وهو صاحب الجمل القصار التي تختزن الحكمة وحل المسألة بأقصر وقت فلم يكن يوما يتقمص البطولات بل كان ولا زال وسيبقى يصدق مع نفسه ولا يخادع ويضحي بمصالحه الخاصة ويقدمها قربانا على مذبح الوطن ولا يرهبه دفع الثمن وبجرأة أدبية وأخلاقية حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الوطن والتاريخ

مثل هذه المواقف توضح معدن الرجال الذين يعتقدون ان التضحية من اجل الصدق والأمانة والقسم هي أعظم من الكرسي حيث لا وجود لاي أنواع من اللواصق والمثبتات بينهم وبين الكراسي التي يجلسون عليها وان استقالاتهم تعني لهم أشياء اكبر واعز من بقائهم في المنصب اذا كان الأمر يتعلق بأمن الوطن والناس وحماية أرواحهم وبما تمليه عليهم ضمائرهم ووجدانهم وصدق ولائهم وانتمائهم

هكذا يتصرف وزراء كثر في دول العالم المتحضرة يستقيلون بمجرد وقوع حادث ولو بسيط في نطاق مسؤولياتهم الأدبية والتي لا تصدر إلا عن أشخاص يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن كافة الأمور التي تحصل في قطاعاتهم حتى لو لم تكن المسؤولية مباشر وان ثقافة الاستقالة أمر معروف وشائع ومفهوم في الدول الديمقراطية ، وتقابل بتقدير كبير وتجعل الوزير او المسؤول المستقيل محل احترام وتقدير من قبل المواطنين كونه تصرف بما يملي عليه ضميره من شعور بتحمل المسؤولية الأدبية والأهم على الإطلاق من المسائلة القانونية والديمقراطية هو ما يوقعه الشخص المسؤول على نفسه عندما يقصر بواجبات مسؤوليته او تحدث أخطاء وتجاوزات من خلال ما استقر على تسميته بالمسؤولية الأدبية والأخلاقية

المسؤول الذي يمارس على نفسه هذه المسؤولية ( كما فعل الوزير الحلالمة ) تكون صورته أمام الجميع ناصعة ويسجل له الثناء والعرفان ولنا في تاريخ الوطن وهنال نماذج طيبة في مثل هذا الأمر ولا تخلو الحياة السياسية في الأردن من محطات إيجابية ولا يخلو أيضا سجل الشرف الوطني من اسما بارزة وعظيمة ما زال الأردنيون يتذكرونها بفخر واعتزاز ممن قدموا استقالاتهم بمض ارادتهم ولم يجبروا عليها سأورد ما أسعفتني الذاكرة منهم والمعذرة لمن غلبني النسيان عن تذكرهم

وفي مقدمتهم وزير الصحة الأسبق المرحوم عبد الرحيم ملحس الذي اثأر فضيحة فساد الدواء والغذاء في أوائل التسعينيات ثم أعلن استقالته وفي حكومة البخيت الثانية استقال طاهر العدوان وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة بسبب عرض الحكومة لقوانين تتعارض مع الحرية وكذلك استقال وزير العدل حسين مجلي في حكومة البخيت الثانية واستقال أيضا وزير الصحة ياسين الحسبان على خلفية مغادرة السجين خالد شاهين البلاد والذي كان يقضي فترة محكوميته بالسجن وعندما حدثت ثغرة في تصاريح وزارة الزراعة استقال الوزير ابراهيم الشحاحدة بكل احترام من باب المسؤولية الادبية وتلك عينة ليس الا والقادم أكثر ان شاء الله

والسؤال المطروح وباستغراب كيف غدا سيشرع ويراقب هؤلاء المستجدين ممن فازوا بالانتخابات وأخذتهم نشوة النصر ففقدوا العقل والحكمة والبصيرة في الحفاظ على الوطن وحماية أرواح المواطنين واحترام سيادة القانون وتعزيز هيبة الدولة وحماية السلم المجتمعي في ظل مرحلة عسيرة مع خطر انتشار فيروس كورونا كيف وهم اول من يخالفون كل ما انتخبوا من اجله كممثلين للشعب

معالي الباشا توفيق الحلالمة لك منا كل مشاعر الفخر والاعتزاز والتعاطف الأخوية الصادقة والجياشة بعدما طوقت أعناق الكثيرين من أبناء الأردن الأشم الغالي بهذا الموقف النبيل وبما تربيت عليه من كريم خلق وصدق عمل وحسن طوية

الأردن سيبقى دوما بجميع فئاته وجغرافيته معبأ ومنظم خلف جلالة الملك عبد الله الثاني لمواجهة كل ما يعرض سلامة الوطن والمواطنين والمقيمين بالترويع واستهداف هيبة الدولة والاستهتار بالقانون وشرعنة الانفلات الأمني بأي وسيلة كانت ونحن اليوم نعزز العهد ولا نجدده ونوثقه بدمائنا وراوحنا ليبقى الأردن أرضا وشعبا ونظام سالما وعزيز مكرما وسيدا

ختاما : أقول لجميع الأخوة القراء والمتابعين ربما يكون لدى البعض أكثر من ملاحظة وعلامة استفهام على الرجل في ماضيه المهني أو غيره وهذا حق نقره من باب احترام الأخر وتقدير حرية الرأي والتعبير فنحن نتحدث هنا عن إنسان يخطئ ويصيب وليس نبي معصوم ولكننا اليوم لا نبحث في سيرته الذاتية ولا نطلب تقيم شخصيته وأدائه إنما نقف معه وطنيا لكي نناصره ونعزز معنوياته ونفتخر بموقفه وهمته وصدقه مع نفسه والناس بكل قوة وإيمان

ليتجذر هذا الفعل الوطني الرائد كنموذج حي لمن يخفون روؤسهم في الرمال او يتسلقون على أكتاف الآخرين وهم يكابرون على الاعتراف بأخطائهم وخطاياهم ويحاربون بالروح والدم من اجل الكرسي والمنصب وما كتب أملاه علي ضميري وقرائتي للمشهد الوطني المحزن وإنني لا اعرف الرجل مطلقا وهو لا يعرفني أيضا لا من قريب ولا من بعيد وليس لي اية مصلحة او منفعة او مكسب ارجوه عنده وكل حرف وكلمة قلتهما هما جزء من قناعتي وإيماني وشئ من الحق الذي ينبغي أن نحيا ونموت عليه حتى لو بقي محبوس في النفق المظلم دون ان نرى بصيصه الى يوم القيامة
mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات