لا تَحـزَنْ إنَّ الله معنا



قبلَ ما يقرب من 1400 عام ، حينما كان هجيرُ الطغيان وسعيرُ الكفر يلفَحُ بلاد الجزيرة العربية وما حولها ، ورذاذَ الحاكمية القبلية يُغرقُ أهلها وسكانها ، وزعامة الاستبداد والعبودية تبسطُ يدها بشراسةٍ وعنجهيةٍ ؛ تلكَ الأذرعُ التي استشاطت غيظَ سادةِ قريشٍ ونقمتهم وازدرائهم وعدائيتهم ، حينما طلَّ الهادي محمد صلى الله عليه وسلم بوحي ربّه ، ليكن الضِّياء الذي ينفضُ عن أكتافِ الدُّنيا بأسرها العبثية والتخبط والتّخلف ، ويخلع عنها رداء الكفر والطغيان والانقياد لغير الله.
لقد كانت إطلالة نبي الأمة وخير البرايا فجراً جديداً ، يؤذن بقيام الدولة الاسلامية ، التي جاهد نبينا الكريم لأجلها مع خيرة أصحابه بالمال والنفس والولدِ ، وتحمل ثقل العناء ومرارة الإيذاء والطعن في نفسه وأهل بيته وسلوكه ، وما كان منه إلا الصَّبرَ منطلقاً من تلك الكلمات التي خاطب بها صاحبه سيدنا أبي بكر الصديق في الغار "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" ، والتي انسابت على شفتيه الشريفتين بكل ثقة بربه وعزمٍ ومضاء وتوكّل عميق في ذاته بسمو وعلو الرسالة "رسالة الاسلام".
ليسَ من الغرابة في مكانٍ ، أن تذرفَ عيوننا الحُبَّ ، وهي تُسطِّرُ ما تيسّر لها من قولٍ في ميلادِ أعظم رجلٍ عرفه التاريخ منذ بدء الخليقة ، بشهادة ربّ العزة في قرآنه المجيد ، وشهادة مفكري الأمة والتاريخ المعاصر وعلمائه ؛ وليسَ عجباً أن نتلذّذ ونتجلى في نسائم سيرته الطيبة ، التي ما كانت للبشرية جمعاء إلا المحجّة البيضاء والطريق القويم ، الذي لا يزيغُ عنها إلا هالك ولا يتنكّبُ الانحراف عنها إلا ضال ؛ تلك السيرة العطرة التي أكملت بناء أسس الحياة وأعمدتها الراسخة ، والتي كان منهلها العذبُ ومرجعها الحق هو القرآن العظيم ؛ ولعلنا لو أردنا المرور على المحطات البرّاقة كلها في حياة رسولنا الكريم محمد ، لنفدَ البحر من مائه ، ورُجَّت الأرضُ والجبال ، ونحنُ لا نزالُ نتكلم ؛ ذلك أن محمداَ صلى الله عليه وسلم مدرسة جامعة شاملة لكل ما هو حسنٌ وجميل ، في قوله وفعله وسلوكه وايماءته وابتسامته ؛ ولربّما يلخص لنا الله جلّ شأنه ذلك كله في آيتين كريمتين: "وَإنَّكَ لَعَلَىْ خُلُقٍ عَظِيْمْ" ، "وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنْ".
يلفّنا الحزنُ ، ونحنُ ندير عقارب الساعة إلى الوراء ، لنقفَ على ثغور الحق ومواطن العزّة والهدى ، التي بسطها عليه الصلاة والسلام في كل أرضٍ وطأتها قدماه الشريفتان على امتداد العالم المترامي الأطراف ، أو علمَ عنها ؛ فسرى حيثُ سرى في كل بقاع الكون بعنفوانٍ وإصرارٍ غرسهما فيه ربّ الأربابُ ، ولبّى أصحابه الكرام النداء ، فكانوا خير من بلَّغوا وجاهدوا وكابدوا حتى الهلاك ؛ كل هذا لا لمكسبٍ دنيوي ولا شهرةٍ وجاهٍ زائل ولا سيادة ؛ إنما فقط لتبقى كلمة الله هي العليا ، وليجعلوا الاسلام الذي أوكل نشره إلى نبينا العظيم يعم كل نواحي الدنيا ، وتسود نظمه في كل أصقاع المعمورة آنذاك ؛ وما يخيِّم على قلوبنا من أسىً ووجعٍ ، ونحن نستمطرُ هذه التجليات والعبر في حياته عليه أفضل الصلاة والسلام ، ليسَ إلا لأننا قومٌ نأسى ولا نتأسّى – إلا من رحم ربي - .
لا بأسَ أنّ الغالبية العظمى ممن يدينون بالإسلام ، والذين يصل عددهم إلى 1.8 مليار مسلم من أصل 7.75 مليار ، وفقاً لإحصائياتٍ عالمية ودولية حديثة ، يحملون في صدورهم ووجدانهم وأنفسهم من الحُبِّ والمودة للمصطفى البشير محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما تتفتَّق له الجبال ، وتجري به الأنهار ؛ منطلقين من فطرةٍ إيمانيةٍ بحتة تربّوا ونشأوا عليها ، وازدادوا بها يقيناً وتسليماً من توقفهم مع شواهد ربِّ العزة الجمَّة ، التي ساقها وجمّلها في قرآنه الحكيم ، والتي كانت ولا تزال وستبقى الشهادة الحقيقية على صدق النبوة ؛ كما أكدت عليها – بما لا يقبل الشك والتأويل – سيرته الطيبة ، التي وثَّقها صحابته الأجلاء وأتباعه ، فكانت استكمالاً لجسرٍ قوي ، جعلَ من الاسلام نهراً عذباً فُراتاً ، لا يظمأ منه شاربٌ.
لم يكن يوم المولدَ النبوي يوماً عادياً يشهده الزمان فقط ، ولا لحظات جاءت لتعيد دورة السنين واطياف عبيرها ونسائمها ، وألق عظمتها وزهوها في كل عام ؛ إنما كان الحدث الأهم والفاصل الأكبر في تاريخ الخليقة ، والسِّراج المنير الذي ينقلُ الإنسانية - على اطلاق معناها - من زمنِ الحيرة والشتات والتَّفلت ، إلى زمن النور والرشاد والسداد ما بقيت الأرض والسماء ؛ إنما وجب أن يكون مولده صلوات الله وسلامه عليه في كل لحظةٍ من حياتنا ومعاشنا ، ما دمنا نستشعرُ هديه وسنته ، ونقطفُ ثمار نبوته ورسالته ، ونتفيأ ظلال أخلاقه ورحماته وحكمته وفوحِ مآثره الكريمة في كل لحظةٍ وحين ، ليبقى زماننا في كلِّ أحواله متبسماً وضّاءا.
سخّر الله جلّ في علاه كل الأسباب التي تجعلُ من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الرحمة المهداة لشعوب الأرض كافة ، والقدوة العظيمة الحسنة لبني البشر ، وهيأ له من لدنه سلطان الحق الذي يعينه ويؤازره في جهاده وكفاحه المستميت لأجل الإسلام والمسلمين ، ليصدق فيه قوله عزَّ وجل: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ" ؛ فصدقَ وعد الله فيه ، وكان الصَّادق الأمين ، رفيع القدر والمقام ، والقائد الشجاع الذي ما عرفَ الزَّمانُ مثلاً يحتذى في براعته كمثله.
ولعلّ الأنظار لا تتجه اليوم لأنْ يكون هذا اليوم لمجرد تلمس الأحاسيس والمشاعر ، وتغذية النفوس والأرواح بما تحمل من عظيم مودةٍ وعلو مكانة لنبينا محمد ، ثم لا تلبثُ أن تتناقصُ أو تذروها رياحُ الأيام ؛ ولا أن يأخذنا التنظيرُ والتصوير ، والإنشاد ومحافل الغناء ، لتكن انعكاساً لما يختلج في نفوسنا في هذا اليوم المشهود ؛ التي رغم ما تحقق من تغذية وجدانية تحلو بها الروح وتتأنّق السَّماء ، إلا أنها تبقى عاجزة عن بلوغ الغاية المرتجاة من هذه الذّكرى ، والتي تتمثل في استشعار حياة النبي القدوة في وتمثّلها في كل شأن من شؤون حياتنا ، وفي كل حين من أحايينها ، بحيث يبقى خلق النبي الانسان وسنته نهجنا السَّوي الذي لا نحيد عنه ، وسبيلنا الأبلج نحو نهضة الأمة ونصرها ونصرتها ، وعزّها وعزّتها.
عودٌ على بدء ، فإنَّ لجوء سيدنا محمد إلى ربّه بقوله: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" ، لم يأتِ مصادفةً أو نوعاً من الحُلم ، بقدر ما كان إيماناً راسخاً منه صلى الله عليه وسلم بأنّه وصاحبه في حمى ربِّ العرشِ ، وتحت ولايته ورعايته ، لا يظفرُ به عدو ، ولا تصيبه فتنة ، ولا يبلغُ منه شديد ولا عتيد ؛ ومن كان في حمى الله ؛ فإنّ الله يحرفُ عنه بوصلة السوء والإيذاء مادياً كان أم معنوياً ؛ فكيف برسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين ؛ وإنَّ ما تحمله لفظة المعيّة في الآية – ولست عالماً أو فقيهاً – لا تؤكد إلا على ملازمة حماية الله له ، وإبعاد الحزن عن سريرته في الدنيا والآخرة.
تأتي قدسية هذا اليوم وأهميته في تاريخ المسلمين من عظم المكانة وعلو الشأن ، التي خصّ بها الله محمداً عليه السلام ؛ وتتآلفُ مشاعر المودة بين الخلق لتتحد على حبِّ هذا النبي العظيم ، والذي جعله الله شفيعَ أمته عنده ، وتلك درجة عليا ما اختصّ بها نبي قبله.
إنّ ما يوجِّه إليه صلى الله عليه وسلم من حملات التشويه والتطاول بالعبارات أو الرسومات ، بدعوى الحرية القذرة ، لم يزده في نفوس أتباعه المسلمين ، إلا نزاهةً وعلواً وسمو قدر ، وارتباطاً وثيقاً به ؛ هذه الحملات التي ما أرادت إلا دسّ الفتنة ، والتأليب والتحريض على الاسلام ، من خلال اعتقادها بأن المساس برمزية الدين الاسلامي ورمز الاسلام والمسلمين محمد صلى الله عليه وسلم ، سيقلبُ الكفَّة لصالحهم ولخدمة عدائهم اللدود لأهل الاسلام ؛ لكن الله غالبٌ على أمره إذ يقول: "وَيَمْكُرُوْنَ وَيَمْكُرُ الله" ؛ وعلاوةً على هذا كله ، فلا تجد أحداً في قلبه ذرةً من إيمان ، أو ممن ينضوون تحت راية الاسلام ، ملتزماً كان أم غير ملتزم ، عابداً أم غير عابد ، ومن شتى الملل والنحل والمذاهب والأطياف ، يرضى أن يُمسَّ نبي الأمة بكلمة سوء ؛ وهذا وحده فقط يثير الغيظ في قلوب المتآمرين على الدين.
فلتعلم هذه الحثالة المغرضة التي تكيدُ وتمكر لهذا الدين وهذا النبي أنَّ المسلمين على قلبٍ محبٍّ في جانب حب رسولهم ، وعلى يدٍ واحدة في جانب الدفاع عنه ، وأنَّهم سيبقوا عاجزين تماماً عن النّيل منه ، وأنَّ التمدد الديني للإسلام في تسارعٍ وتزايدٍ مستمر خلال الأيام القادمة كما تشير العديد من احصائيات العالم السكانية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات