فُنجانٌ باردٌ على رصيف الظَّلام


في ذاتِ مساءٍ مرهِق مَجبولٍ بطين الهُموم السَّرمدية ، وستارَةُ النافذة تُزمجرُ مِن حولي ، وتترامى على حيطانِ ذلك القبو الدّاكن ، وتيّاراتُ العِشْقِ العسلية تندفعُ مع خيوط الهواءِ المتجعِّد ؛ أسلَمتُ عيني إلى سُفوحِ الإغماضِ السَّافر ، وأودَعتُ روحي ملائكةَ السَّماءِ وحُرَّاسه ، وبيني وبينَ الاستغراق ما بينَ الّليلِ والغَسَق ؛ تركتُها هناك تُطارحُ الذّاتَ والشَّتاتَ وتبني ظلِّي مِنْ فُخّارِ اللامألوف ، وتَشهَقُ شهقةَ حياةٍ أخرى لم أرَها قَط ؛ وركنتُ إلى طرفِ الغياب والمجهول أراقبُها.
تَعبتُ في ديوانِ الغياب ، وأجهدني الانتظار والاحتضار ، وما هي إلا دقائقَ حتى غَرُبت عَيني في سُباتٍ طويلٍ ، وكأنني أسيرُ فوقَ الغيوم مُجرَّداً من الروح ، أدخلُ من محيطٍ إلى خليج ، ومِن خَلاءٍ إلى يَباب ، وأعبر مِنْ وادٍ إلى شِعاب ، تتفرّق بي الطُّرقاتُ ولا بصيصُ نورٍ يأخذني إلى هناك .. إلى روحي ؛ أمشي على دروبِ الضَّياعِ ولا أحسُّ بقدمَيَّ ، وكأنَّني أتسوَّلُ الضَّجيج ولا أجده ، فكلُّ شيء كان ساكناً ، وكلُّ شيء كان غريباً ؛ الآخرة تنزعني من الدُّنيا ، والدُّنيا تُريد أن تَردَّ لي انفكاك روحي ؛ وأنا لا زِلتُ أمرغُ وجهي ببقايا صلصالها ، حتَّى لا أنضَبَ ، وأحتطبُ عظامي الهشَّة على فِراشَ النّار المستعرة ؛ تلبسُني ناياتي المَبحوحةِ في كومة صوفٍ مأسور ، وهواجسُ قلبي تَترَى تتسلّلُ من رَحِم الأجَل المحتوم.
صَحوتُ بعينين ذابلتين في مساءٍ قابعٍ فيما وراء الوراء ، مساءٌ غَلَبَ عليه صباحُ فُنجانِ قهوتي الذي يتلفَّتُ في أنحاءِ الغرفة وحدهُ ، يَبحثُ عن وجهي الغارقِ في الأحلام ؛ وما أنْ رحلَ الزَّبَـد عن شفاهِهِ الباردة ، حتى أصابني الذّهول والارتباك خشية أن أتأخّر عن وقت الدوام المحدّد ؛ أسألُهُ عن الوقتَ بِنَهمْ ، وأعاتبهُ تِرياقَ السُّكَّرِ فيه فلا يُجيبُ ؛ اعتذرتُ للفُنجان على عَجَلٍ لطولِ الانتظار والنسيان مُهملاً كلَّ حركاتِ السكونِ والهُدوءِ المتبَلِّدِ ؛ وهممتُ مباشرةً لأرتدي ملابسي ، وأجهِّزُ نفسي لألتحق بصباحِ يوم عملٍ جديد ، وصورةُ روحي النائمة لم تغبْ بُرههً عني ؛ وأنا يتلَقَّفني الخوفُ ولا أدري ممَّ ، ويسيرُ بي مصعدِ المبنى نازلاً كأنَّه يُلقي بي في قاعٍ بئرٍ عميقٍ لا نهاية لهُ ، وما هي إلا دقائق حتى وصلَ هَـودَجُ غِواية التِّرحال مُجهَداً ، وجلستُ على مكتبي مطمئناً أستَرقُّ السَّمعَ لهسيسِ ليلي والصَّباح الذي لم يأتِ بعدْ.
كما هي عادتي في كلِّ صباح ، وقِلاعُ الحيِّ تتثاءبُ لتلدَ شمسها على حيطانِ المنازل المُلتفَّةِ بلثامِ الحشمة ، وبقايا ضحكاتِ الليل تتناثر على الطُرقات ، وأنا والساعةُ والليلُ نسيرُ في ذلك النَّفق الطويل الذي يمتدُّ بيني وبيني ؛ وما أنْ تربَّعَ جُلّاسُ الليلِ بي ، حتى جَرَّدتُ هاتفي منِّي لألقي تحية الصباح على صديقي وأتجاذبَ معه شيئاً من عذبِ الكلماتِ ، التي اعتدتُها تَتصبَّبُ على قارعة سمعي كلّ يومٍ ، يُدخل السُّرورَ إلى قلبي بلمساتِ حواره الرائعِ مرَّة ، ويُفيقني بوترياتِ الغُربة والغَرابة مرَّة أخرى ، حتى ملأتني حكاياتُ "زرقاء اليمامة" ، وأنا أرى الفجرَ أمامي أبعـد مِنْ عيون الليل ، ولا أسمعُ مِن ضَجيجِ المكان إلا اللاشيء ؛ في تلك اللحظات ومكانُ العملِ خالٍ من كُلِّ شيءٍ إلا منِّي ؛ تَلاطمت بداخلي أنغامُ ميِّتة ، لا أسمعُ منها سوى قَهقهة الطاولة والكرسي وبعضَ الأوراقِ ، حتى الهوامشُ ظلَّت جاثمةً على الساعة ، ولم يبدأ ذلك الصباحُ المنتظر ؛ حينها شّكَّ صديقي بأنَّ ثمّةَ أمرٍ مقرُّهُ السّماء ، فطلب مني الإبقاءَ على حفنة التِّيهِ في جيبي ، وعَرقلة رَحى الحديث والانتظار ؛ فانتظرتُ وأنا أقولُ في ذاتي: "أليسَ غَـداً لِناظره لقريب".
طلَّ من أمام المبنى وأنا كأنَّما سكنَ بي دُولابُ ليلٍ وفاقَت مَعازفُ ليلٍ آخر ، وقدْ تَسَمّرْتُ كنسائمِ الخريفِ الخَجِلَة ، تَتساقطُ عنِّي كُلُّ أقنعة الّليل الكئيب ، وتمورُ بداخلي حساباتُ المسافةِ وقوانينُ الكون ، وكأنَّني أُولَـدُ حينها ، وأستقبلُ روحي بأسواطِ الجريدِ المتربِّعِ في بيداءِ قلبي ؛ تَصافحنا وتبادلنا الحديث في خضَمِّ رحلة الوجع المُبكية ، وتَداولنا قليلاً من جدليات العِشقِ وجنونه ؛ ثمَّ كبَّر بنا العِشاءُ على أطراف أحد الشواطيء الفسيحة ، لنمحو عن وجه الدُّنيا ذلك الغَضَب المَقيت ، وصديقي يستغرقُ كل حينٍ في موجة ضحكٍ ومُزاحٍ عجيبة ، بقدرِ ما كانت تُفرحني فقد كانت تسلُبُ ما تبقَّى لدي من نكهة الحياة ، رغم انّني على عِلم تام أنَّه ما أراد إلا ليأخذَ بي بعيداً عن زوبعةِ الفنجان.
تفيأنا بعدها بقليل ظلال سوقٍ كبير ليأخذَ صديقي بذراعَي من حوضِ الفوضى المتمرِّدِ بالحُزن لاحتساء شيء من القهوة ، عَسانا نعودُ إلى ذلك الفرحِ المعتَمِر على تُخومِ قلوبنا ، وتلك المواويلُ الرابضةُ على أوردة الكلام ، وأنا أقولُ بداخلي: "ما بالُ القهوة تُطاردني" ؛ كانت لحظاتٌ نرجسيةُ الوقعِ يكتنفُها الاطراقُ في الصمتِ حيناً ، وهمساتِ النّازفين حبر دمائهم على جُدرانِ الشؤمِ حيناً آخر ؛ في كلِّ تأتأةٍ يحرقها الفُنجانُ بي تتلاشى غشاوةٌ من أمواج الظلام التي تُحاصِرني ، لتسيحَ في نهرِ النّسيان الجارف ؛ في كُلِّ لحظةٍ نستعيدُ ذلك السيناريو العجيب الذي يَتهادى مع خُشونةِ الخُطى السابحة في المكان ؛ أبحثُ هناك عن مَسرحٍ يضمُّني فلا أجدُ سوى رفيقي ينحتُ لي فرحاً على واجهةِ النَّائبات ، وأتساءلُ ، إلى أين كنتُ أتّجه؟!
لأولِ مرّةٍ أشعرُ بأنَّ بين حلاوة الحياةِ ومرارة الموت جسرٌ خفي ممتدُّ ، أوهى من خيوط العنكبوت ، وأشدُّ قسوةَ من الحجارة ؛ هذا الجسرُ المتين الذي لا يعرفه إلا من أخذته هواجسِ البقاءِ والشَّقاء لتنفيه على رصيف الوقت ، وتُكبّلُ روحه بأصفادٍ من نارٍ وأنين ، جسرٌ ينآى بك عن الوجود تماماً ، ويضعُكَ في حيِّزٍ ربّاني مُبرمج في كلِّ أطرافه ، حتى تعودَ إليك تلك الروح المسلوبة ، وتعودَ مِن بعد تدّفُّقِ صيحة الأجلِ إلى رحمِ الولادة.
عُدتُ براحلتي المشبَعةُ بفُتاتِ الظلامِ ، وحقيبتي المتأرقة بهمومِ النهاياتِ والبدايات ، أسدلتُ ستارة مسرح اللاشعور ، وأرخيتُ لسجّادة أفكاري حزمة الألم لتصرخَ في فضائه الرَّحب على أبوابِ وأزقَّة العُمر المُندسِ في عُمري ، ولمْ أُسلِمُ نفسي حينها إلا لله ، ولمْ أشكو ألمَاً يبتزُّني ؛ لكني أذكرُ أنني قد نَبشتُ قبر الراحل الكبير درويش ، لأعزِّي نفسي بأحد كمنجاتُه:
على قلبي مّشَيتُ ، كأنَّ قلبي
طريقٌ ، أو رصيفٌ ، أو هواءُ
فقال القلبُ : أتعبَنِي التَّماهي
مع الأشياء ، وانكسر الفضاءُ
وأَتعبني سؤالُكَ : أين نّمضِي
ولا أرضٌ هنا ... ولا سّماءُ
إليك يا روحي التي أتعبتِ صَمتي ، فأتعبكِ العناء كُلَّ التّحية .. وإليك يا صديقي الأصيل يا مَنْ نبتَّ في القلب كما تنبتُ الرُّوح في الأشياء تحياتي وفُنجاني .. فالحكايةُ أكبر من تاريخٍ باسمٍ يمرُّ في شريط الذّكريات في دقائقٍ حزينةٍ ، فأنت فاكهة التَّاريخ ومَذاقِ السُّطور.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات