لحَظاتٌ في قاعِ المدينة


هكــذا يصحــو كل يومٍ ، يمشي على رُموشِ سُفُــوحِها ، ويحملُ تنهُّــداتها وصَخَبَ ليلِهــا ، يُداعبُ عَينيها الغارقَتينِ في سُباتِ الرَّوابي الفَسيحَة ؛ يَلتَهمُها فُتُـورُ الوقتِ وقَلقُ السَّاعات ، وعناقيـدُ الظَّـلام تَقرُصُ خدّيها ، وتَرحلُ بأنفاسِهَا وإ بين إسراءِ الرُّوحِ ومِعراجِ تستثيرهُ ابتسامتها المغســولة بأباريـــق الحَــزن ، وتأخــذه مواقــدُ الأمــلِ الدافقِ من مؤقِ عينيها إلى عالمٍ بعيدٍ من الخيـــال ، يمزجهُ مع الصبحِ همسٌ دافيء ، فلا يخدشُ حياء كُحلها بسؤال ، ولا يسرقُ من عينيها موّال.

هكــذا يُطــاردهُ بنفســجُ أنفاسها حينما يَخنقُ رُوحُها المغيب ، ويَفقـدُ عِطـرُها المَسلوبُ مِن بين أناملها ومن تحت وَجنَتيها بهجــةَ التأنّقِ والتّألّق ،؛ فيَمتطـي صَهوة الطّريق المُدلهمِ المَمتَـدِّ على أجنحَة الشَّفق الضيقة ، يَمضي مُحتضناً جُرعَة ألــمِ الفُراق وفُراقِ الألــم ، يترك وراءَهُ نَهَـارَها في مَحطّـات الشُّروق ، ويُغادرُ طُيوفَها والقلائدُ والمَساجدُ والمَعابدُ والعُيونُ المَخمليّة ؛ آمِـلاً أنْ يأتي يَومَاً بحفنةٍ مِن تُراب الدّار يَغسلُ بها جَبينها الظّامئ ، أو يَجبُرَ كُسْـورَ القَصـائدَ الناعمة التي هزّت الرَّيح أفئدتها ، وتركتها على مَفاصلِ الدُّروبِ فاقدة الإتجـاه ، تنسجُ خِيامَاً للحُبّ ، وتَنقشُ حُلمُها الجَميـلُ على خَرائطِ الزَّمَنِ المُلبّــدِ بالليلْ.

في كلِّ ليلـةٍ تجولُ في خاطِـره حكاياتُها والفَاجعات التي تَعزفُها للخَلائق في كل يومٍ بثوبِ حدادٍ وكَفــنٍ جديد ، ويمشي إليه هديلُها وقد مَلأها السُّرور وهدّهَا الفُـراق ؛ في هذه الأثناء تَحضُره ابتسامة السّوقِ المُزدحم بالشّيب ، وأصْواتُ البَاعـة الشّجيّة المُتحشرجة ما بين نداءات قوتٍ وغذاء ، وصَرَخات نَصـرٍ وإبـاء.

في كلّ ليلـــة يَطوفُ مُدُنَها وحَواريها المُدجّجـة باليُتْــمِ والرِّثـاء ، وبَساتينَها المُزهِـرةَ بالطُّفـولة والنّـدى ، وما جَفَّ قــذىً بعينيها مُذ خلقت ؛ يقظُّ مَضجَعُه هوى عُشَّاقها ، فّتخشعُ أحلامُهُ الثقيلة على بوّاباتِ الرَّاحلين منها إليها ، ويّخلــو المُوحِشُ المُبهــمُ البهيمُ إلا منه ، ويذهبُ إلى أبعدِ ما تذهبُ إليه الشَّمس ، فلا نارٌ ولا نُورٌ ولا حجارة.

لم يفاجئه هَديلُ الحَمـام على مَنابِرها وقِبابها وفي سَاحَاتها في الغَسَقِ ، ولا صَرَخاتُ الثَّكالى والأرامِل وأنينُها يَنسَابُ من بين ثُقُوبِ النَّوافذ ، ولا زَمجَرة "الشّهادتين" ينطقهما بصَوته الأجَشِّ كَهلٌ على عَتبةِ الوضوء كأنَّها الرَّعْـدُ يفتُقُ السَّمـاء ؛ لم تزلزلهُ الخُطوبَ التي يتّمت تينَهـا وزَيتُونَها واستباحت كُرومَها ، ولا نداءات أسوارِها العاليــة التي يَطويها الحُزنُ الدَّفين ويشدُّ بُنيانها الدمُ الطَّاهرٌ ولا استغاثة المِحرابِ الذي يَرقُـدُ خَاليَاً إلا مِن وعـدِ الله "اللهُ أكبر" ؛ لم يكُ يَومَاً جَاهلاً سرّ السِّنـين ، لكنَّـهُ يحتضنُ في صَدرِهِ شَـرَارة انتصارٍ ، مُقسِمَاً أن تأتي السُّنون يومَاً لِتمضي على الوُرودِ ضَحوكةٌ.

تَتَقـاطعُ أصواتُ المَآذنِ وأجْـراسِ الكنائس في فَضَاءاتِها المُترامية الطَّالعَةِ مِنْ وَجَعِ الـدُّجَى ، فَتُرطّبُ وجهها الأغَــرَ العَامرَ بالنقاءِ والبَهـاءِ ، وترتَحلُ نَسمَـاتُ غُصُونِها الكئيبةِ بَينَ المَسَاكِنِ والأماكِنْ ، ويَجْتاحُها في مِثل هذه اللحَظاتُ وُجُـومٌ وزَمْهَـريرٌ مَكبوت.

لا يزالُ على أريكَتِهِ بين توجّسٍ وأحاسيسٍ غريبةٍ تلاحقه ؛ يُطعَـنُ في صَميمِ أطلالهِ ، وتُؤسَـرُ آمَالهُ وأفراحُه ، حتى جُلُودَ القَصائدِ تُخلَعُ وتَستَشْهِدُ أمامَ عَينيه ، وتُلقى في قَاع المَدينَة ؛ وثَوبُهَا الأبيَضُ الزَّاهي بحبَّات العِنَبِ وبَاقات الزُّهورِ ورائحَةِ البُرتقالِ والتِواءاتِ الدروبِ تعبثُ به رِيشَةٌ مَا أتقَنَت فن الرَّسمِ بعد ، ولا تَعرفُ سِوَى خَطف الألـوان.

كلُّ شَيء يَمرُّ مِنْ فَوقِـه ، السَّحَابُ والضَّبابُ والأحلامُ والأنغام ، إلا القَهْــرُ يَبيتُ مَغرُوسَاً في جَنبيه ، يُجَـدِّدُ فيه الجُـروحَ يَومَاً تِلوَ يوم ، وكلُّ شيء بَــدا حَولهُ قاحِلاً من كل شيء ، إلا القَنَـاديلَ الصَّغيرة التي تَذرُفُ الـدُّمُوع على جُدرانِها الخجِلَة ؛ وكلُّ شيء صَارَ كأنَّهُ لا شيء.

لا تَـزالُ نائِمة على حِجْرهِ لَمْ تَصْحُ بَعدْ ، تُبعْثرُها أحْـلامُ العَابِرينَ وآهَاتِهم ، وتَرتَاحُ في صَـدْرِهَا الأشواكُ ، تَنتَفضُ في لَيلِها آلافَ المَرَّاتِ ، وتَبُوحُ للأقمَـار بِلِـذَّةِ النَّهَـار ، إنَّها انتفَاضَتَهَا لِموعِـدِ اللقَـاءِ ولَحْظَةِ العِنَاق ، الصَّرْخَةُ التي تُغَـرّدُ في كُلِّ أرجَاء الدُّنيا ، صَرْخَةُ الحَقِّ الذي تَنَاثَرَ كَحبَّاتِ القَمحِ في كُلِّ شِبر ولم يَنمُ ، ولا يَقبَلُ رُبَىً غيرَها ليَنمُو ؛ ولا تزالُ نائمَة.

لَم تَغِب عنه أبداً ؛ مَعشُوقَته التي أفنى لأجْلها السِّنين ، ورَاقَصَ البَنَادق والمَدافعَ كي تبقى أنشُودة الألق الذي لَن يَغيبَ ،
إنَّها قضيَّتَهُ وقضيَّةُ كُلِّ العُشَّاق ، بها يَكبرُ الحُبُّ الطاهر ، ويَكبُرُ بالحُبُّ مَعها.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات