توجيهي 2020 .. ما لي أرى التعليم أصبحَ عاجزاً ؟!


لا أحد يجزم بأنْ تكون نتائج الثانوية العامة لهذا العام عاصفةً هوجاء تهشِّم وتخدشُ عملية التعليم أو تجلبُ لها مزيداً من الارتقاء ، لكنها بلا شك وفي جميع الأحوال والمقاييس مدعاةٌ للاستغراب والتأمل من ناحية ، وتغذية راجعة من ناحية أخرى ، يتوجب على الوزارة التوقف عندها لإعادة مراجعة "الثانوية العامة" كنظام امتحان وطني وشهادة دولية ، بحيث يحافظ على القيمة والألق الذي حققه ، فانعكست نواتجه الايجابية على منظومة التعليم بأسرها عبر سنين خلت ، ومن ثم إعادة ترتيب الأولويات والاستراتيجيات التعليمية التي تقود في النهاية الى إنعاش وإحياء الصورة المتجذرة في عمق العقل العربي - من أقصاه إلى أقصاه - من جديد عن رفعة ورقي وجودة مستوى التعليم في الأردن ، والتي تُلخّصها الذاكرة الأردنية على امتداد نصف قرن ، كانت فيه الأردن المنتِج الحقيقي والمصدّر الأول للكفاءات التربوية وبجدارةٍ عالية المستوى.
ليس من الطبيعي ولا المنطقي أن ندّعي في هذه الأيام بأنّ العملية التعليمية في أعلى مستويات الجودة والتحسن من خلال اختزالها في مقياس تربوي واحد هو "شهادة الدراسة الثانوية" ، كما أنه ليس من المعقول أن نطوي ملف أحد عشر عاماً يدرسه الطالب قبل "التوجيهي" ، لنصدرَ حكماً مطلقاً يُحدد مستواه خلال سنةٍ واحدة ؛ فالعملية التعليمية لها استراتيجياتها المُحكمة ومفرداتها ومعطياتها وخِطَهها التقييمية التي يستند القياس فيها على كل مكونات التعليم ، ولا يصحُّ الحكم بهذه المنهجية إلا إذا نظرنا لهذا الاختبار الوطني من جانبٍ ضيقٍ هو الجانب الكمي "الرقمي" فقط ، متجاهلين الجانب القيمي والنوعي له ، الأمر الذي لا يتفق مع الأهداف التي وجد لأجلها هذا الاختبار ؛ وإلا نكون قد وضعنا قاعدة خصبة وبيئة حاضنة لتفكيك سلسة التعليم المدرسي ، وتفريغها من مضمونها الأهم المتمثل في البناء التربوي التراكمي والوجداني والفكري والتحصيلي للطالب ، ونقف نادمين نعزّي أنفسنا بقولنا : "فَلستُ أول من زلّت به قدمُ".
هذا إذا ما نظرنا إلى أنّ معدّل الطالب في الثانوية العامة يشكل الفيصل في بدء مستقبله ، وتحديد توجّهه في دخول بوابة التعليم الجامعي ، وخوض مضمار الحياة ؛ فهل يعني ذلك أنّ سنوات الدراسة "ما قبل التوجيهي" هي لمجرد التسلية وقضاء وقت فراغ ؟ وهل بالضرورة وجود مرحلة أساسية في التعليم طالما يتم الاقتصار على شهادة واحدة تمنح الطالب "فيزا" دخول الحياة والحصول على المقعد الجامعي ، لتقرر له مساره الوظيفي أو المهني أو العيش في فضاء أحلام الحصول على الثانوية العامة ؟ فإذا كان الهرم يبدأ منذ السنة الدراسية الأولى للطالب بالمدرسة ، ثم يستمر الصعود بالتدريج عبر سنواتٍ يبني فيها معارفه ووجدانه وشخصيته وينمي مواهبه ، ويعزز معلوماته العلمية وقدراته العقلية وفق نسقٍ متلازمٍ مع الجانب التربوي ، ثم يوضع كل هذا جانباً عند بلوغ القمّة ، ويوضع الطالب على محك العبور الى المستقبل من خلال رقم "المعدّل" ، فما الفــائدة إذاً ؟
"المعدل" .. رقمٌ أصَم وإشارة دالّة لكنها ليست انعكاساً للواقع العملي إذا احتكمت إلى جانبٍ واحدٍ وفقدت عنصر الثبات ، ولا تنفرد وحدها بتقييم المجتمعات أو القطاعات أو السياسات ، ولا تُترجم بالضرورة درجة التطور أو التراجع إلا على المستوى الكمي فقط ، في حال لم يرافقها تقييماً استقرائياً واستطلاعياً مباشراً يأخذ بعين الاعتبار جُلّ المعايير المرتبطة والمكونة للفئة أو العينة المنتجة لهذا الرقم ؛ ولعلّ هذا يتضح بشكلٍ جلي في المعدلات الكاسحة وغير المسبوقة في تاريخ المملكة ، وربما على المستوى الدولي ، والتي تمثلت في حصول (78) طالباً على العلامة الكاملة (100%) في القطاعين العام والخاص ، وأفرزت ما يزيد عن آلاف الطلبة من الحاصلين على معدل (98) فما فوق ، مما أثار موجة استغراب وجدلٍ واستهجان كبيرة في المجتمع المختلفة ولدى المختصين التربويين ، رغم فرحة الأهالي العارمة بالنجاح ؛ ذلك أن هذه النتائج غير مقنعة ، ولا تمثل التقييم الحقيقي الفعلي للطالب ، وربما أفقدت البعض مستوى الثقة بهذا الاختبار الوطني ، ووضعتهم في زاوية التخوّف والقلق من عدم قبول بعض الدول بمعادلة شهادة الثانوية الأردنية ؛ إلى الحد الذي يقفُ فيه أحدهم دقيقة صمت متسائلاً : هل تتبدّل الثقة الى نعي التعليم في بلدنا ؟! أم أننا وصلنا الى الهاوية التي كنّا نخشاها ونحذّر منها مراراً بفعل العبث وعشوائية التخطيط الفردي ؟!
لا يخفى على الجميع أنّ نسبة النجاح العامة هذا العام انخفضت عن العام السابق بما يقارب 2% رغم الارتفاع الخيالي في المعدلات ، ولعل هذا لا يعطي أي انطباع عن تحسن مستوى التعليم وتطور مخرجاته ، أو نجاح الآلية التي تم بها الامتحان بالتزامن مع الظروف المحيطة بجائحة "كورونا" ، التي تركت أثراً نفسياً سلبياً على الطالب والأسرة ، ولا يشير ذلك من قريبٍ أو بعيد إلى اليقين التام بامتلاك الطالب النسبة الأعلى من الكفايات المعرفية والمهارية ، ورغم كل تلك العقبات جاءت النتائج مرتفعة جداً وعلى غير العادة ؛ وإذا ما نظرنا اليها بعين الناقد والمحلل ، فإننا لن نقف عند النتائج كأرقام ، إنما علينا أن ندرك بأنّ الواجب الوطني يُحتم علينا أن نتعامل مع "الثانوية العامة" كملف كامل بكل معطياته بأمانةٍ ومصداقية باعتباره جزءاً من الأمن القومي ، حتى لا نصل الى إفرازات سلبية مثل تلك التي شهدها الوطن في السنوات الأخيرة ؛ وإذا أمعنت النظر قليلاً تجد أنّ السبب يكمن في ترك هذا "الاختبار الوطني" رهينة التغيير والمنهجة والإدارة والاجتهادات الفردية ، والتي تتغير طبقاً لتغير الوزراء ؛ فيس عيباً أن يخضع هذا الاختبار للقياس والمراجعة والتقويم والتعديل بما يخدم الصالح العام ، لكن الخطر المهدد أن يُترك حقلاً للتجريب.
كما أسلفت لا ذنب للطالب الذي عاصرَ الظروف الصعبة التي رافقت الامتحان وتحداها بكل صبرٍ وكفاح ، ولا مسؤولية على ولي الأمر الذي فرضت عليه تلك الظروف متطلبات ربما لا يقدر عليها أو لا يجيد التعامل معها ؛ إنما لا بدّ من استعراض بعضاً من مواطن الخلل وتبعات ومخرجات الآلية التي تم تنفيذها هذا العام في امتحان الثانوية العامة ، وذلك على النحو الآت :
أولاً : اعتماد الأسئلة الموضوعية لجميع المواد وفي كافة مسارات التعليم ، سواء العلمية أو الانسانية أو المهنية ، يجعل الفرصة سانحة الى تدخل عامل التخمين في الاجابة بشكلٍ كبير ، والاقتصار على الحفظ والتذكر فقط ، الأمر الذي يُغيِّب جوانب أخرى أكثر أهمية كمهارات التحليل والتفكير والقدرات العقلية ، التي لا يمكن قياسها من خلال الأسئلة الموضوعية ، خاصة في المواد العلمية التي تعتمد إجابة أسئلتها على تسلسل الخطوات ، وكذلك عدم جودته في قياس قدرة الطالب على التعبير في مادتي اللغة العربية واللغة الانجليزية.
ثانياً : اعتماد نمط واحد فقط من الأسئلة الموضوعية ، وهو " الاختيار من متعدد " ، في حين تم تجاهل أنماط أخرى متنوعة مثل : أسئلة الاجابة القصيرة التي تكمن في كلمة أو (1-3) سطور ، أسئلة إكمال الفراغ ، أسئلة المزاوجة والتوافق ، اسئلة تصويب الأخطاء ، وغيرها ، والتي يمكن أن تسد الكثير من الثغرات التي وقعت في الامتحان ، وتزيد من مساحة الأهداف التعليمية التي يحققها الامتحان.
ثالثاً : عدم المنطقية في وجود معدلات (100%) بهذا الكم الهائل ، فالطالب الذي يتقدم لسبع مواد بالمتوسط في كل مسار تعليمي يجد أمامه ما يزيد عن (250) فقرة تقريباً ، فالحصول على العلامة الكاملة قد يحصل بلا شك في ضوء طبيعة الامتحان لعشرة طلاب فرضاً ، أما بهذا الحجم فذلك غير مقنع وغير مبرر وغير معقول ، فلسنا في مجتمع عباقرة ، كما صرح معالي د. محمد الذنيبات الوزير الأسبق للتربية والتعليم بقوله : "هذه المعدلات لا تعني أننا في مجتمع عباقرة".
رابعاً : الأخطاء التي جاءت في كشوفات العلامات للعديد من الطلبة ليست محض الصدفة ، فأن يحصل طالب مثلاً على علامة (193) من العلامة الكاملة (200) في مادة الرياضيات ، فهذا مستحيل لأن الامتحان مكون من (40) دائرة لكل منها خمس علامات ، وبالتالي فإن مجموع علاماته يجب أن يكون رقماً من مضاعفات العدد (5) ، وهذا ما لم يحصل في علامات بعض الطلبة ؛ مما يؤكد بما لا يقبل الشك أنّ علامات الثانوية العامة ليست حقيقية بالمطلق ، إنما تعرضت الى التعديل وفق معادلةٍ ما بهدف رفع منحنى النجاح ونسبته ، ولأهداف أخرى ربما لم نُحط بها علماً.
خامساً : ارتفاع المعدلات الخرافي هذا العام يُنبئ بمشكلة كبيرة على مستوى الطلبة وأسرهم ، تتمثل في خلق عقبة أمامهم في نيل مقاعد جامعية في العديد من التخصصات ، خاصة وأن عدد الناجحين ممن تجاوزا (90%) بالآلاف ، كما أنه يكبد أهاليهم أعباءً مادية جمّة - لا قدرة لهم على تحملها - في حال توجهوا بأبنائهم إلى جامعاتٍ خاصة ، أو تم قبولهم في برنامج التعليم الموازي ؛ إضافةً الى أنّ الطاقة الاستيعابية للجامعات الرسمية والخاصة غير كافية لاستقبال هذه الأعداد الكبيرة ؛ ولا ندري هنا هل نبارك للطالب الناجح على استحالة قبوله في جامعة ؟! أم نقدم له ولأهله المواساة على انضمامه الى طابور الواقفين خلف أسوار الجامعات ؟!
هذا غيضٌ من فيض فيما يتعلق بالسياسة الخاصة لوزارة التربية والتعليم والخطط الآنية فيما يتعلق بمخرجات العملية التعليمية ، مما يستوجب البعد عن التخطيط قصير المدى ، وعدم المضي قدماً في ابتكار استراتيجيات تخضع لقيود فردية ، وأخذ الأمر كمسؤولية وطنية بكل حزم ، والالتفات بجدية وأمانة وصدق وإخلاص الى منظومة التعليم برمتها ، وطرح الحلول البديلة بكافة اشكالها بكل شفافية ووضوح ، بحيث يحفظ لهذا النظام "الثانوية العامة" سمعته وهيبته وكفاءته ، ليظل المقياس الأعلى دقة والأقوى فاعلية ؛ وسيبدو هذا أكثر جدوى وعدالةً وانصافاً إذا ما قامت الجامعات بجهدٍ تشاركي مكمل لدور الوزارة من خلال إقرارها امتحانات القبول في الجامعات ولمختلف التخصصات.
بقي أن نؤكد على أن التوجه العام في بناء التعليم يجب أن يكون قائماً على التعليم كمنظومة متكاملة تسعى لخلق الطاقات الابداعية والعنصر البشري الكفؤ والخلّاق والمسلّح بالعلم والمعرفة ؛ دون تغليب الجوانب الاقتصادية وتحقيق المكاسب المادية.




تعليقات القراء

ام معتز
كلام قيم جدا وينظر للموضوع بعمق بالغ
سلمت استاذ عمار
21-08-2020 11:24 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات