لأجل ذلك .. مع المعلِّم



قضمَ قطعة خبزٍ من صباحه المقضوم ، وبالكاد احتسى قهوته على عجَلٍ ، ارتدى ما تيسّر من ملابسه الخفيفة ومضى إلى يومه الثقيل، قبلَ أنْ تنتعل عقارب الساعة أحذيتها الجديدة ، انتعلَ أوجاعه وهمومه القديمة ، أقبضَ مقبضُ الباب على يده، كأمٍّ عجوزٍ تلقّمُ كفّ إبنها ما قسمَ الله له من دعاء، في الطريق الطويل ألقى تحايا الصباح على عامل وطنٍ يقاسمه منبّه الفجر منذُ أعوامٍ ، مُزاحماً أكتاف الشمس الساخنة ومعاطف الشتاء القارصة، صعد حافلةً عموميّةً قاصداً طابور الوطن الصباحيّ، في الباحة السمراء ألقى رأسه مُنحنياً لقداسة السبع المثاني وهي تُتلى من مذياع المدرسة، ورفع رأسه معانقاً ترانيم السلام الملكيّ وهي تُلقى على رأسه كسِفْرٍ قديم، يطالعُ من الباحة علمَ المملكة بعيونٍ مُنهكَة، وهو يعلو كسربٍ من الملائكة.

المعلِّم؛ هو أخر ذاكِرةٍ بيضاء فينا ، هو خشوعنا الأول ونحن نردّدوا وراءه سورة الفاتحة، هو المعادلة التي تعلّمنا منها بأنّ الوطنَ رقمٌ صعبٌ لا يقبل القسمة على إثنين، هو القاعدة التي جعلتنا نؤمن بأنّ المال العام علمٌ "ممنوع من الصرف والنهب"، هو ذاكِرة التاريخ التي غرست فينا أنّ أمّةً بلا فلسطين هي أمّة بلا ذاكِرة، هو أول الواصلين الذين أخبرونا عن بطولات شهداء النكسة والنكبة وشهداء الكرامة، هو أول المُخبرين الذين كتبوا لنا على اللوح العتيق، أسم وصفي التلّ و فراس العجلوني وكايد العبيدات و منصور بن طريف وغيرهم، هو المعلِّم الذي تعلّمنا على يديه، بأنّنا مهما إرتدينا من أرواباً سوداء أو بيضاء أو قبعاتٍ صفراء أو خضراء ، ومهما توشّحنا بربّطات عُنقٍ أنيقة، ستبقى أرواحنا جند مجنّدة ترتدي. " فوتيك عسكريّ".

كرامة الوطن من كرامة أبنائه، وكرامة أبنائه من كرامة معلِّمهم، وإنّ دقّ عنق كرامة المعلِّم هو قطع لوتين الوطن. كم نحن أحوج إلى إعادة ترتيب المقاعد من جديد، ورصّ الصفوف كما كنّا نرصّ مقاعدنا الخشبيّة ، والمحافظة على مكتسبات الحريّة والتشاركيّة والعمل العام، وتحصين هيبة المعلِّم وتبجيلها ، بوصفه حجر زاويةٍ لكلّ بيتٍ وأسرة ومؤسسة.

سلامٌ عليك يوم كنت هناك وسلامٌ عليّ، سلامٌ على الرداء الأزرق في الطابور الصباحيّ، سلامٌ على رغيف الخبز من خلف شباك المقصف المدرسيّ، سلامٌ على حارس البوابة وبابه الحديديّ ، سلامٌ على علبة الألوان وكرّاسة الخط العربيّ، سلامٌ على كتاب التلاوة وقصة مريم وإبنها النبيّ، وسلامٌ على كلّ رُكنٍ في موطني.









تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات