جهاد ..


... أريد أن أكتب للشاب جهاد السويطي، من الخليل والذي، أمضى الايام والليالي وهو يتابع وضع والدته المصابة بكورونا، من خلال الجلوس على شباك المستشفى في الخليل..

صباح الخير يا جهاد..

أنا أعرف أنك لم تكن تشاهد والدتك من خلف الشباك، بل كنت تشاهد الخليل كلها.. الأم وطن يا صديقي، وحين تمرض كل شيء تشعر به مريضا.. الهواء في رئتيك، وفمك وعيونك.. والصباح وحتى الشمس تحس أن دفئها متعب..

بين الكرك والخليل يا جهاد، خط ضوئي لا يتعدى كيلومترات قليلة، ومثلما شكلت الخليل الحنين في ضلوعك، شكلت لي الكرك العشق ورسمت تفاصيله في أوردة القلب... ويبدو أن الجغرافيا لدينا صارمة، ومنها أخذنا شخصيتنا ومنحتنا الدمع أيضا.. كنت مثلك وتذكرت نفسي حين شاهدت صورتك، أمي اصيبت ذات يوم بالسرطان.. وتسلقت جدران الأمل.. وبقيت أراقبها من خلف فتحة الباب في المشفى، وأقول في داخلي ستعبر.. الله يحمي الأمهات اللواتي يفردن الفجر سجادة للصلاة، ويصنعن من المدى أدعية وتبتلا.. ولكن يبدو أن كورونا فتكت بك وليس بوالدتك، مثلما فتك بي وجع رحيل أمي...

قلبي معك يا جهاد.. وأنا لا أعرف أيها (الخليلي) أي نافذة من نوافذ الوجع ستواجه هذا اليوم، رحيل أمك المؤلم، أم نافذة احتلال بغيض، يعرف تماما أن العروبة قد تنفد من الدنيا إلا الخليل، وكيف تنفد من بلد... يكفن فيها الميت بالعروبة، والمولود حين يطل على الدنيا.. يكبرون في أذنه، ويخبرونه أن فلسطين عربية... أي نافذة ستواجه؟ الداء الذي تفشى في بلد يترك الكل منزله وقت الظهر، لأجل أن يحظى بزاوية في الحرم، يؤدي فيها الصلاة.. أم نافذة رحيل أمك، التي سترى صورها في ممرات الدار، وفي نومك وصحوك، في أواني الطعام... وستفيق يوما مذهولا حين يأتيك صوتها بالحلم، وتبحث عنها.. ستجدها في قلبك فقط.. أي نافذة من نوافذ الوجع ستواجه يا هذا الفلسطيني المتعب، المبتلى بالشهادة والكبرياء.. والحب.

الأيام القادمة متعبة يا جهاد أنا أعرف، حين تجد أن أمك، وضعت مشطها تحت مخدتها على السرير، على أمل أن تعود له، وتسرح الشيب المنسدل على الكتفين، لا تجعل الدمع يغزو العيون في هذه اللحظة.. وتذكر أن جديلة فلسطين تنمو وتنمو وتنمو..

وستنفجر الدموع في عينيك يا أخي وصديقي، حين تفتح خزانتها... وتجد حذاءها، في أسفل الخزانة، وكانت قد أعدته.. كي تذهب به لعرس بنت الجيران، أعرف أنك وقتها ستحضن الحذاء وتبكي... لكن لا تفعل، مسموح لك بدمعة واحدة فقط، وتذكر أن قدم فلسطين ذات يوم ستدوس على كل التاريخ الأسود..

وربما ستسقط من هول الصدمة، حين تفتح حقيبتها... وتجد أنها احتفظت بشهادة ميلادك، وصور قديمة لك أنت لم تشاهدها بعد، وأنها أيضا.. تحتفظ برباط قماشي صغير، كان لك حين ولدتك.. وهو ما تبقى من (الكوفلية) التي لفوك بها وأنت رضيع... لا تحزن ولا تسقط من وجعك، وتذكر أن أطفالا في الأرحام الفلسطينية الآن، ينتظرون صعود الحياة كي يمسحوا من جبهة الأمة كل القسمات الخجولة... والمخزية.

أعرف أنك حين تدخل المطبخ ستبكي أيضا، وأنت تشاهد ما تركته من (أرز منقوع) وبعض (الباميا).. كانت ستطبخ وليمة، للأولاد لكن المرض لم يمهلها...

قلت لك بين الخليل والكرك، خط ضوئي قصير جدا، وبين القلب والقلب لايوجد مسافة.. ولكن تذكر أن فلسطين لا تمرض بكورونا ولا تموت، وفلسطين لا نراقبها من خلف الشبابيك.. بل وجها لوجه، تذكر أن فلسطين أمك وهي المرتجى، وهي الحضن والحياة... وأنا يا صديقي وأخي من (كركي) المتعبة أرسل لك العزاء والمواساة.. وأخبرك أني شعرت بالتراب هنا في الكرك يبكي على أمك مثل ما بكى تراب الخليل... فأنتم حين تنتجون الوجع، نتذوقه نحن.. وحين تبكي الكرك، أحس بالخليل، تبكي مع الشقيقة وتمسح عن خدها دمع الفجيعة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات