تائهة في وسط الزحام


لا زلتُ أذكر ذلك اليوم الذي التقينا فيه بمحض الصدفة على مقاعد الدراسات العليا بجامعة دمشق، عند دخولي لبوابة الكلية متجهًا صوب قاعة المحاضرة رأيتُ أثناء طريقي فتاة شدت انتباهي من شدة جمالها وأربكتني بسحر شفتيها وطول قامتها ولون عيونها وعذوبة وجنتيها، ويكأني لم أر أنثى من قبلها لم تكن أنثى كانت قمرًا منيرًا ليلة البدر، وقفتُ قليلًا ثم تحدثتُ مع ذاتي هل أعود لها لأسألها بعض الأسئلة وأعرفها بنفسي؟ وأقول لها بأني طالبٌ قادم من أزقة عمان وضواحيها، ولا أعرف شيئًا عن الكلية وممراتها وأسماء قاعاتها علّها ترشدني، ومن هنا تكون بداية علاقتي بها، لكن كبريائي الذي حملته معي من أزقة عمان وضواحيها لم يسمح لي بذلك، وبقيتُ في طريقي صوب قاعة المحاضرة، جلستُ على المقعد وحيدًا لا أعرف أحدًا من الجالسين في القاعة، وبقيتُ في القاعة جالسًا بجسدي، وعقلي سارحٌ بها، رغم أن الحسناوات التفين حولي ليتعرف عليّ إلا أني لم ألقِ بالًا لهن، فجأة وقبل أن يدخل الدكتور لإعطاء المحاضرة، فإذا بها تدخل المحاضرة ظننتُ للوهلة الأولى أنها معنا في المحاضرة، وقفتُ لا شعوريا منتصب القامة كالعسكري الذي جاء سيده لتفتيش الثكنة، أحسّ الحاضرون بشيء ما لكني حاولت ألا أكترث، وأن أدع الأمر كأنه حدثًا عفويًا.

ذهبت هذه الفتاة في طريقها وذهبتُ في طريقي، لكنها بقيتُ عالقة في ذهني، وتشغل حيزًا من تفكيري، حاولتُ لاحقًا أن أبحث عنها في أزقة الكلية وممراتها، لكني لم أر لها أثرًا ، ويكأن الأرض انشقت وابتلعتها عليّ حين غرّة، انتهى الفصل الدراسي الأول دون أن التقِ بها، ويكأن الصدف كانت خير من ألف ميعاد، بعدها بفترة لمحتها من بعيد مع إحدى الزميلات اللواتي أعرفهنّ هرولتُ نحوها مسرعًا محاولاً التعارف عليها، تجاذبنا أطراف الحديث قليلًا ثم انتهى الحديث وذهبنا لمحاضراتنا، لقد لامس حبها شغاف قلبي وروحي على حدٍ سواء، ثم لاحقًا أصبح التواصل بيننا عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فهي في كلية العلوم الإنسانية تدرس علم النفس التربوي وأنا أدرس الفلسفة، ذات مرّة أحببتُ بأن أوصل لها رسالة ذات مغزى ومعنى مع إحدى زميلاتي في المحاضرة، أحضرتُ لها مصحفًا صغيرًا وبعض الشموع ثم غلفتها ووضعتها بظرفٍ مزركش، وأرسلتها أمانة مع تلك الفتاة لها، كان لديها كبرياء وآنفة وعزة وشموخ تمنعها من الحديث مع أي أحد، كنتُ أخشى أن أهديها المصحف والشموع وجهًا لوجه فترفض، أو تصدر منها ردة فعلٍ غير محسوبة تجمع علي الكلية، لهذا أوصلت لها الهدية كأمانة مع إحدى زميلاتي، التي اكتشفتُ لاحقًا بأن الأمانة لم تصل، وأن كيد النساء عظيم، وأن زميلتي ستر الله عليها قد أخذت الهدية والمصحف لها، ناقشتُ رسالتي ولملمتُ أغراضي لأعود صوب عمّان، وتركتُ دمشق ومن فيها، وبقي التواصل بيننا عن طريق الفيس بوك، ثم خرجتُ بعدها لأعمل في مدينة جدة، ذات يوم طرحتُ عليها فكرة أن نكون مع بعضنا ولبعضنا، اشترطتْ علي أن استقر في دمشق كي توافق، لكني رفضت رفضًا قاطعًا، ثم اعتذرتْ بسبب ظروفها المحيطة بها، وعلى ما يبدو أن ظروفها كانت قاهرة للغاية، لقد توفي سندها وأملها بعد الله عزوجل، وترك خلفه ذرية ضعافًا، فوقعت على عاتقها مسؤولية عظيمة بعد وفاة أخيها، التمستُ لها عذرًا، وبقيت بيننا علاقة المودة والاحترام والتقدير، وهي تدرك جيدًا في قرارة نفسها بأني أحبها حبًّا جمًّا لا مثيل له، ذات يوم كنت أتنقل في صفحات الفيس بوك وأجوبها واطالع الأخبار فإذا بخبر عنها مضمونه أنها خطبت من كان قلبي لها يعشق، أرسلتُ لها رسالةً مباركًا مهنئًا لها، ثم منذ ذلك التاريخ انقطعت علاقتي بها ولا أدري ما حلّ بها، كنتُ أحاول بين الفنية والأخرى أن أدخل على صفحتها وأقلبها لأسمع أخبارًا عنها، لكن بلا فائدة، فصفحتها كانت مقيدة، كنت أريد أن أعرف هل تزوجت؟ وهل حملت؟ وهل سافرت؟ وأين استقر بها المطاف؟ لكني لم أستطع معرفة شيء عنها، بعدما تزوجت بفترة من الزمن قالت لي إحدى زميلاتي أنها تزوجت، قلت لها بارك الله لها وبارك عليها وجمع بينها وبين زوجها في خير، هنيئًا لمن أخذها إنها على قدر من الجمال والأخلاق والعلم والعفة ويكأنها حورية لا بشرًا، ومضت الشهور والأيام، وذات يوم قبيل الفجر بساعة تذكرتها، وخطر في بالي أن أرسل لها رسالة لأطمئن عليها، وعلى أهلها وجوزها وحياتها، استيقظتُ في الصباح على رد منها أهلا محمود أهلي بخير والحمدلله، وزوجي انفصلت عنه منذ ثلاثة شهور، كان جوابها كالصاعقة التي نزلت علي، ذهلت، قلت لها ماذا تقولين؟ قالت كما سمعت، عندما حدثتني عن التفاصيل، ذرفت دموعي، كان زوجها متعلمًا ويحمل شهادة الدكتوراه في القانون، لكنه كان يضربها ويشتم أبيها ويهين عشيرتها ويصرخ عليها ويعنفها ويعاملها كأنها ليست أنثى، وقتها أجهشت بالبكاء ثم سألت نفسي، هل يعقل أن أمثال هؤلاء متعلمين ويحملون الشهادات العليا؟ وكيف تخرجوا من الجامعات؟ وكيف حصلوا على الشهادات؟ ثم قلت أن هؤلاء أنصاف المتعلمين الذين يملكون كرتونة على هيئة شهادة علمية، ولا يملكون علمًا ولا ثقافة وليس لديهم أخلاق أهل الإسلام ولا حتى مروءة أهل الجاهلية، من يضرب أنثى بلا أدنى أخلاق، من يكسر خاطرها بلا ضمير ولا رحمة، من يتلاعب بمشاعرها مجرم بلا شفقة، من يسرق زهرة عمرها وشبابها وحش وليس فيه ذرة إنسانية، أصبت بالدهشة والحيرة عندما أخبرتني أنها كانت تحمل في بطنها جنينًا، لكنه سقط من بطنها إثر ضرباته المتتالية، ثم حملت مرة أخرى منه، ولم يلق لها بالًا، ليته لم يسأل عنها فحسب بل إنه لم يتفقد ما في بطنها ويسأل عنه. من أي فصيلة من بني البشر هؤلاء إن كانوا بشرًا أصلًا؟.

الجامعات تمنح طلابها الشهادات العلمية، والأموال تمنح أصحابها الأملاك الساحرة، لكن الأخلاق وحدها هي من تمنح أصحابها الخوف من الله، واحترام حقوق الآخرين.

فبدلًا من أن يكون أبًا يعطف عليها، وأخًا يخاف عليها، وزوجًا يحن عليها، كان وحشًا يتغول عليها تارة يسحب مسدسه عليها ليخيفها، وأخرى يضربها بالعصا ليهينها.

يحمل الشهادات العليا ويملك الأموال الطائلة، ولهذا ابحثوا عن أصحاب الأخلاق وليس أصحاب المال والشهادات والجاه، وكل رجل يضرب أنثى ويمد يده عليها هو فاقد للجولة، وإن كان أبي.

متى ندرك أن الأموال لا تصنع الرجال، وأن الشهادات العليا لا تكشف معادن هم؟ الأموال والشهادات لا قيمة لها إذا كان من يمتلكهن جاهل العقل والفكر، ومريض النفس.

إلى تلك الأنثى الاستثنائية التائهة في وسط الزحام كوني قوية، وهزّي بجذع النخلة يتساقط عليك رطبًا جنيا، ولا تهتزي لأي عاصف، ولا تستسلمي لأي كابوس، ولا تخافي من أي نسمة هواء عليلة، كوني كما رأيتكِ لأول مرة على باب الكلية في جامعة دمشق شامخة عزيزة قوية، تتسمين بالكبرياء والأنفة، لا تضعفي، ولا تشكي للناس جرحًا أنت صاحبه، فالناس لا تشعر معكِ ولابكِ، رجاء كوني قوية، واطوي صفحة الماضي، وعلى البنات أن لا يغريهنّ وسامة الشاب، وطول قامته، ونوع سيارته، وحلاوة لسانه، وشهاداته العلمية، كل ذلك لا قيمة له ولا معنى إذا كانت أخلاقه رديئة وتعامله فج، وشتان ما بين الرجال والذكور.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات