عبادة الأوثان 


منذ بعثة رسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يحاول تحويل العرب كأمة من عبادة الأوثان والأصنام سواء كانت شخوصا أم حجارة، إلى الايمان بالفكرة المطلقة المجردة العظيمة وهي وجود خالق عادل رحيم "ديمقراطي بمفاهيم اليوم"، يساوي بين جميع البشر نساء ورجالا وعربا وعجما، ويجعل معيار التفاضل الوحيد هو التقوى والعمل الصالح، ويطلب ممن خلقهم أن يكونوا على شاكلته في تحري الخصال العظيمة التي تصلح أمر البشر والكون، كالعدالة والرحمة والتسامح والعفو والإحسان والخير، ويخيرهم في أن يسلكوا طرق الخير والشر بملء إرادتهم بعد أن يوضحها لهم المبعوثون والمختارون والمصلحون، وينصحهم بالشورى بينهم في كل شؤون حياتهم، ويحذر من الظلم والبغي والعدوان وأكل أموال الأيتام والضعفاء وظلم النساء والاطفال والمساكين وأهل السبيل، ويدعو إلى التراحم والتواد والتكافل وصلة الرحم ومبرة الجيران والعطف على الفقراء ومساعدتهم عبر الصدقة والزكاة ونصرة الضعفاء والمظلومين وقول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر، ويوجه حتى إلى الابتسام في وجه العدو والصديق ويعتبره صدقة، وإزالة الأذى من الطرقات وصون سر المجالس والابتعاد عن الفتنة والغيبة والنميمة والإثم والسباب والطعن واللعن والفحش والافتراء والتنابز بالألقاب، وغير ذلك من قيم عظيمة مطلقة مجردة هي قوام علم الأخلاق اليوم. 

ولكن العرب، وبعد أكثر من ألف وأربعمائة وثلاثين سنة من بعثة الرسول، لم يتمكنوا من الارتقاء نحو الفكرة، وما زالوا عاكفين على عبادة الأوثان البشرية حتى بعد وفاتها بآلاف أو مئات أو عشرات السنين، وقد التقط أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقرب الناس إلى الرسول هذه الإشكالية فور وفاته، فقال قولته الشهيرة موجها خطابه إلى كل العرب " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، واضطر إلى محاربة من اعتبرهم مرتدين عن الفكرة العظيمة، كما فعل الخلفاء الراشدون الأربعة الذين توسعوا في نشر الفكرة إلى بلاد غير بلاد العرب، فكانوا السبب في تكوين أمة أهم من أمة العرب هي أمة الإسلام. 

ولكن، وبعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة، هدم جوهر فكرة الإسلام العظيمة بالديمقراطية في الحكم وفي المساواة بين الناس والعدالة في توزيع موارد الدولة، وعاد الحكم إلى الوراثة وتمجيد الفرد أو القبيلة أو السلالة، فحصر في قريش تارة، وفي آل البيت تارة، فالعثمانيين، فالمماليك، فالفاطميين، ثم غيرهم وغيرهم ممن احتكروا الإمارة والتجارة والثروة والسلطة، وباتوا لا ينطقون عن الهوى، وتوالت حبات المسبحة، وتفنن العرب في إحياء الأوثان القديمة المدفونة تحت التراب، أو صناعة أوثان جديدة باتت رموزا وطنية أو قومية أو أممية أو دينية أو سياسية، وارتدوا إلى عبادتها حية وميتة، بل إن الكثير من الصراعات السياسية اليوم هي صراعات بين عبدة هذه الأوثان!! 

الفرق بين الطفل والمراهق ، هو قدرة المراهق على التفكير المجرد المطلق وتحرره من الحاجة الى التفكير المادي المحصور بالأشخاص والعينيات، وهي السمة التي تهيئه لاعتناق الأفكار العظيمة وتوليد النظريات والفرضيات والغوص في بواطن الامور والفلسفة والغيبيات، وبدون هذه القدرة فإن الأفكار تبقى محصورة في الخرافات والماديات، التي لا يمكن أن تنتج علما أو إبداعا أو اختراعا أو إضافة الى تاريخ البشرية وإنجازاتها. مرحلة المراهقة هي التي تهيئ الإنسان للانتقال الى مرحلة الرشد حين يكون مسؤولا عن أفعاله ويتجه نحو الإنتاجية والإضافة إلى حياته وحياة غيره من البشر، فيستحق أن يكون خليفة الله على أرضه كما قال الله العزيز في محكم كتابه" إني جاعل في الأرض خليفة". 

مع الأسف، يبدو أن أمتنا العربية ما زالت في طور الطفولة، ولم تنجح حتى في التحول نحو سن المراهقة، ومن ثم، فإنها لن تدخل أبدا سن الرشد، ما لم تبدأ بنبذ عبادة الأوثان والصراع على الأموات، والتحول نحو اعتناق الأفكار العظيمة وتطويرها لتغيير حياة الأحياء ومن سيأتي بعدهم نحو الأفضل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات