أيُستتابُ القلب ؟


عشوائيات في الحب – السادسة

مع غروب ذات يوم ، ما عاد اهتمامها يحتويني ، تسرب من قلبي ونيسُه . وخسرَت روحي أنيسَها . اختارت طريقا آخر .أخذت معها بعضا من شقاوة أبجدياتي ، وأصول ترتيلها . وما عادت تراها عيناي . أضعتُ عِنواني . خسرتُها بِلا وداعٍ فاصلٍ . فالوداعُ كما اعتادتْ أن تقولَ لي ، لا يَقعُ إلا لِمَنْ يعشقُ بعينه فقط .

محدِّثَتي صديقةٌ طبيبةُ أشعة ، لبلوغ السن القانوني ، تقاعدت قبل أشهر من وزارة الصحة ، ردَّتْ على ما قلتُ ونحنُ جلوسٌ نحتسي قهوة الصباح ، في مكتبي في أحد شوارع عمان : بسؤالٍ محدَّدٍ مُحايدٍ : كيف تراها يا صديقي ؟

قلتُ مزهوا : إمراة ، أنوثتُها بشغفٍ أجادَت ترتيبَ أولوياتي . أتْقَنت الابحار في أحلامي ، بلا وثائق سفر، وبلا رغبةٍ في صيدٍ ، أوعبَثٍ بدفاتر. لَمْلمت ، رمَّمَت وهَنْدَست ، وطنا نعيشه بلا إرهاق . حصَّنَته بسماءٍ ظليلةَ التَّفهُّم . أرضُه ذليلة باهتمامٍ مُستدام ، أسوارُه محصَّنة بالناضج من الحياء ، طرقاته سلسة بظنٍّ حسنٍ ، وأبوابُه محروسةٌ بالتسامح .

قالت محدثتي بصوتٍ أثقلته تعمُّدا بحيرة رجراجة : ولكن ، من كان مثلها ، لا تنتهي يا صديقي برحيل ، وإن غادرت .

أكملتُ دونَ أنْ أتبيَّن كثيرا مما قالت : بمغادرتِها ضيَّعتُ شُطآنيَ . إتسعت كل الأماكن ، وضاق صدري . وكيلا يموت نبضُ ذاكرتي ، حاولت ألا أغرق في جعبة هزائمي ، وطبول حنيني . سارعتُ إلى السحبِ الظَّليلةِ . حاولتُ استبدال إسمٍ بإسم . أتى في غيابها عابرون . مُبعثرا جاء حمامٌ ويمامٌ وغربانٌ وغَمام .

ظننت أن صمتها يسأل بقلق : وماذا بعد ؟
فتابعت قائلا وأنا بينَ البَينين : هزمتني ملامحُها ، ومسافاتُ إبحارها ، وإغواءاتُ عطرها . فظلت كؤوسيَ فارغةً ، والحكايةُ بلا عنوان .

قالت وهي تتنهد بعمق وتتلفت بقلق : من الطبيعي ، أن يبقى رجل غادَرَته امراة مثلُها ، فارغَ الصدر، قلبُه كقلبِ أمِّ موسى . ولكنْ قُلْ لي بربك ، كيف أقنعت قلبَك أنها لَمْ تُغادر؟ أيُّ صبرٍ هذا الذي أبقاكَ مُبتسما ، بعد أن لم يعد فيك شيء ملتئما ؟
قلتُ بوجعٍ بَيِّنٍ : حين بدأ بعض ما بيننا على غير عادته ، استشرفت الكثير مما كنا قد توافقنا عليه ، ووثقنا بصحته . إنه اليقين بأنَّ أفراحَ المُحبين لا تنبع من ظروفهم ، بل من قلوبهم . فقررتُ كي لا ألعن الانتظار . الإحتماء بذاتي وبحسن ظني بها . صادقتُ نفسيَ أكثر. مَحَوْتُ كلَّ جِهاتي . وتمرَّنتُ على الوحدة .

لأن لنا في ذِمَّةِ الحبِّ وأذرعه نبع أحلام مشتركة . أدَمتُ قلبيَ مُطوَّقا بقلبها، وأبقيت جلَّ مشاعري في سباتٍ عميقٍ . زرعتُها في كلِّ همومي . رسمتُها على وِسادتي . أغتابُ طيفَها كلَّ ليلة . أجَّلتُ أفراحي ، واثقاً أنَّ آخرَ ملامحِ هذا الوجع ، شروقٌ نمضي معا فيه. فصرتُ قابلا للعناقِ والإشتعال .

إكتسى وجه محدثتي بمشاعر مستنفزة ، لم أفهم سببها ، فعاجلتها بمرافعة قلت فيها : نعم يا سيدتي ، من الممكن أنْ لا تكونَ صاحبتك أجمل النساء ، ولكنها بالتأكيد أحبهن إلى قلبي . ما بينها وبينكُنَّ جميعا ، مدى من فوارقَ تعنيني أنا . لا يُدركُها غيريَ أحدٌ . تفاصيلٌ صغيرةٌ كثيرةٌ غيرَ زينتها ، لامَسَتْ مشاعريَ وجذبَتني إلى ضيائِها ، وأبقتني على قيد الحياة .

بقيت شفاه محدثتي مزمومةً ، رضا أو غضبا ، لست أدري ولا أريد أن أدري . فتابعتُ بفرح طفولي ، وكأني دون أن أدري ، أتعمد إغاظتها :
انها مختلفة يا سيدتي ، مثل أمي ليس كمثلها شبيه .لا يضاهيها أوحتى يدانيها ، في تأجيج صخب الحضور، إلا نكهةُ جوزة الطيب في تتبيلة عجوة امي ، وهي تحشو به كعكع عيد الفطر ، او نكهة جبنتها وهي تسلقها بالمستكة والمحلب وحبة البركة ، اومكدوس باذنجان تحشوه بكرم بالجوز والشطة ، وتغرقه في فيضٍ من زيت الزيتون البكر ، وترصه بعناية في مرتبانات البلور . او تضاحك جاراتنا مع امي ، وهي تجمعهن مع اول زخات المطر ، لمعاونتها في تخليل الزيتون الأسود والأخضروالرصيع والجرجير والقَرْقيع .

سألَتْ محدثتي وكانها تستكملُ موجَ حيرتِها : لِمَ تثقُ إلى هذا الحدِّ بأنها عائدة ؟
قلتُ وأنا أتنهد بعمق : قلبيَ بها أحق ، فهوَ بِها يَضِج .ولنا فيه ذكرياتٌ وتفاهُمات . فمنذ الومضةِ الأولى ، بوعي التزمنا بهَيبةِ الحبِّ . أحراراً ابحرنا فيه . متفقين على إبقاء قوانينَ الجذبِ مَفْصلية . وحرصنا على أنْ يكونَ الخصامُ بيننا ، مؤدَّبا مهذَّبا مشذَّبا ،انيقا وعادلا .

سألتْ وهي تداعب اصابع يدها باصابع يدها : أولم تختلفوا ، ترتطموا أو تتصارعوا كلَّ هذه السنين ؟
قلتُ بوجعٍ مُبتسمٍ : كي لا نموت مرتين في ضجيج الحياة ، إتفقنا على أن نبقى كالماء عصيَّيْنِ على الكسر . كنَّا نرى المشاكلَ مِنْ بعيدٍ ومِنْ قريب . كي لا نُسيءَ تقديرَها أو فهمَها ، كنَّا نقرأ بودٍّ بعيدا عن جدَلِ الاثمِ والبراءة . نتحاورُ بحبٍّ لا بِبُغض ، ونقتصدُ في الظُّلم .

قالت مُتعجبةً مُتعجِّلة : إذن لِمَ وصلتم إلى هنا ؟
قلت محزونا : خنّاسُ الكبرياء ، في غفلةٍ منا تسلل وسوسَ في عقولنا . وأثقل أرواحنا بشيء من أسيجة التشاؤم . فما عاد سفرنا محصورا في حقول الياسمين ، بل بات بعضه كرَّا وفرَّا في حقول الجوري ، المثقل بالكثير من الشوك الواخز وأحيانا المدمي . فاختلط علينا العتمُ بالنور وبالغيم ، فإغتربنا مهزوزين .

وسألَتْ وهي تحدِّقُ في عينيَّ بقلقٍ : مذا لو نادَتْكَ عبريَ الآن ؟
قلت مقاطعا بفرح طفولي ، أجيؤها ، وربي قبل أنْ يرتدَّ إليها طرفُها . وصولي لها لن يستغرق إلا تنهيدة . فأنتِ ممَّنْ يعلمون أنَّ كهوفي في صدرها ، هناك غار حرائي . ليت الذي بيني وبينها ، يا سيدتي باب يدق .

نهَضَتْ واقفةً ، مدَّت يدَها اليمنى باتجاهي وهي تُردد : وعهدُ الله أنَّ عينيها في غيابك كحضورِك ، لم تمتلئ إلا بك . هيا بنا ، إنها بانتظارنا هناك .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات