دلالات ينبغي استباقها


في مؤتمره قبل أيام صوت حزب العمال البريطاني على برنامج بنقاط رئيسة محددة ابرزها الغاء التعليم الخاص. تبدو مفارقة مذهلة في زمن يسود فيه التوجه نحو الخصخصة في مختلف القطاعات ومنها القطاعات الخدمية. وعندنا تتزايد كل سنة نسبة المدارس الخاصّة ويرى البعض ان اضراب المعلمين سيعطي دفعة قوية باتجاه تقليص القطاع العام التعليمي. ولا أعتقد ان حزب العمال كان سيجرؤ على خطوة كهذه لولا ان التجربة تدعم موقفه من حيث ان الالتزام بإلزامية التعليم كمبدأ انساني مقرر على نطاق دولي لن ينجح بدون التزام الدولة بتولي هذه الخدمة وتحمّل مسؤولية تقديمها على افضل وجه.

اضراب المعلمين اليوم ينطوي على أبعاد أكبر من كونه قضية مطلبية خاصة لقطاع معين، انه يتحدث عن أزمة شاملة للقطاع العام الخدمي وهو القاعدة التاريخية لاستقرار الدولة والمجتمع، قاعدة خلخلتها التطورات الاقتصادية والاجتماعية في العقود الأخيرة حيث أوصلتنا إلى المساحة الملتبسة التي نراوح في مستنقعها على مسافة تلوح كالسراب لدولة القانون والمؤسسات، الدولة المدنية، دولة العدالة والمساءلة والشفافية. لقد أنجزنا الخصخصة وتحرير التجارة والاعمال مع إبقاء بل توسيع نظام الامتيازات والتمييز في الدوائر العليا للسلطة تاركين البيروقراطية الحكومية للترهل وللتضخم ان يأكل الرواتب والتقاعدات بحيث اتسعت الفجوات الاجتماعية بصورة تهدد استقرار المجتمع. بينما لم نسمح بتطوير الحياة السياسية لامتصاص التوترات وتمكين الفئات الاجتماعية المختلفة ومصالحها من قنوات التأثير والمشاركة في القرار. وكان من المفارقات الاقتصادية ان قفزات النمو لم يكن لها أي أثر حقيقي على الاقتصاد الانتاجي والتنمية المستدامة فكانت أرقام الاقتصاد الكلي والمالية العامة ونسب النمو منفصلة عن الواقع لا تعطي صورة حقيقية لما يحدث على الارض. واليوم نجد انفسنا أمام انفجار صدامات اقتصادية اجتماعية دون اي تأهيل لإدارتها بصورة آمنة.

يجب ان نتأمل في هذا الالتفاف الكامل حول الاضراب ولن يجدي التلميح للتجيير السياسي والأجندة الخفية لتيار سياسي وراءه. لا يمكن لأجندة سياسية أن تدفع اضخم شريحة اجتماعية إلى موقف إجماعي ملتزم كهذا وغدا لن نعدم ظواهر مشابهة في قطاعات اخرى وسط عجز فادح لبيروقراطية الدولة عن ادارة الموقف. ولذلك فإن اهم استخلاص من هذا الاضراب ضرورة السير بمشروع اصلاحي سياسي اقتصادي اجتماعي جدّي للغاية لاستباق صدام وتفسخ اجتماعي قادم.

أتفق مع من يقول إن لدينا هنا مشكلة مزدوجة في التأهيل السياسي للطرفين في ادارة صراع مطلبي وكنت كتبت قبل حين عن خطورة استخدام سلاح الاضراب المفتوح. بينما فشلت الحكومة في الهجوم بمقترحات إبداعية تكسب بها الرأي العام وقد شرحت مقترحا يحول النفقات المطلوبة لصالح المعلمين إلى نفقات على اصلاح حازم للتعليم يحمّل المعلمين حصتهم من المسؤولية، لكن الحكومة وصلت إلى أخذ قرار بزيادة مقطوعة متواضعة من الواضح انها ستكون مرفوضة من النقابة فكرست وضعية احتجاز نفسها والنقابة في اعلى الشجرة.

الآن مع القرار القضائي بوقف الاضراب اصبحنا في أخطر موقف فالقرار غير قابل للتطبيق اجرائيا بالالزام على مائة الف معلم ثم انهم يمكن ان يعودوا إلى الصفوف ولا يعطوا دروسا! فماذا نفعل بالقرار! لو كان لي أن أتخيل حلا فهو ان تطلب الحكومة تعليق الاضراب مع التزام فوق الزيادة التي قررت اخيرا بالتفاهم على نظام حوافز يساوي قيمة العلاوة المطلوبة ومبادرة النقابة لتعليق الاضراب احتراما للقانون واعطاء فرصة اضافية للتفاوض حول مقترح الحكومة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات