جاسيندا أرديرن "امرأة دولة" جسدت مفهوم القيادة الحقيقي


بداية ورد معنى مصطلح رجل دولة في احد تعريفاته انه القائد السياسي المحنك الذي يتمتع بعقلية واعية تفكِّر بالحكم وشؤونه ويمتلك نفسية طيبة ولينة مع قدرة كافية على تسيير شؤون الدولة وما يطرأ من مشكلات في محيطه ويوردها موردها السليم بكل ما تقتضي الحكمة سواء كان في الحكم أو كان بين الناس وهو أيضاً الرجل الذي يستطيع أن يتحكم في علاقاته مع الناس الخاصة والعامة دون التخلّي عن قيَمه ومُثُلِه وأفكاره وكل ( رجل وامرأة ) يُمارس أو يضع مصلحة الوطن فوق مآربه الشخصية ويعمل بإخلاص وتفان ومهنية وهو في الحقيقة يشكل رمز لمصطلح رجل الدولة ويستحق أن يحظى بالاحترام والإعجاب وكم من امرأة حكيمة وحاذقة وقائدة بمعنى الكلمة توزن بألف " رجل دولة " وهذا بالفعل ما ينطبق حرفيا وكليا على السيدة رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن التي قدمت نموذجاً جليلاً من القيادة والإنسانية لم ولن ينساها التاريخ لما أظهرته من حكمة وشجاعة وحسن إدارة للمرحلة التي مرت بها بلادها في أحلك يوم في تاريخها عقب الهجوم الدموي المسلح على مسجدين في مدينة كرايست تشيرتش أثناء صلاة الجمعة والذي قضى فيه أكثر من 50 شخص من الضحايا الأبرياء المهاجرون والمسلمون واللاجئون والمقيمون من دول كثيرة بعدما وجه يميني مجرم وإرهابي متطرف تهديداً قوياً للأمن الاجتماعي في بلد يعتبر مقصداً للاجئين والمظلومين والمهاجرين حول العالم الهاربين من بطش أنظمتهم وحروب دولهم التي لا تنتهي .

ذلك الهجوم الذي جاء كمحصلةً لتأجيج خطاب الكراهية والترويح لمفهوم الإسلاموفوبيا عبر الإعلام الغربي والصهيوني المسيطرين وبشكل مستمر إضافة إلى سياسات ترامب العنصرية تجاه المسلمين والأقليات والتي ساهمت في انتشار هذه النزعة المتطرفة والمدمرة .

موقف رئيسة وزراء نيوزيلاندا كان عظيم ومشرف في تعاطيها مع الهجوم بدءا بوصفه بالإرهابي وقد أظهرت مسؤولية عالية ورباطه جاش ملفتة وقوه شخصيه نادرة نالت إعجاب المسلمين والعالم ورغم جسامه الحدث حيث واجهت اكبر عمل إرهابي في تاريخ بلادها وأثبتت أنها امرأة حديدية الى جانب تعاطفها وشفافيتها المطلقة وقد كشفت عن صفات مذهلة أكدت على أنها زعيمة وقائدة مستعدة لأن تكون صلبة وحاسمة وحازمة في الشدائد وقد تواصلت مع كل الجهات المعنية وقدمت لشعبها وبخاصة المسلمين كل ما يحتاجونه من معلومات عن المذبحة أولا بأول وعبرت عما يجيش في صدور أهالي الضحايا عندما قالت " إنهم نحن " وهم منا ونيوزيلندا وطنهم في إشارة إلى ضحايا المذبحة فلم تنبذ شعبها وإن كانوا مختلفين معها في العقيدة وأكدت أنه لا مكان للكراهية أو التعصب أو التمييز العنصري أن تجد مكان لها في هذا البلد ووجهت حديثها إلى القتلة والإرهابيين قائلة لقد " اخترتمونا لكننا نرفضكم وندينكم " وسارعت لضمان دفع تكاليف جنازات الضحايا وتقديم أي مساعدة مالية دائمة لأسر الشهداء بغض النظر عن وضعهم القانوني كمهاجرين .

وقد استطاعت بحنكتها ورشدها أن تحتضن شعبها وتواسيهم بعطف غامر عفوي رغم صغر سنها حيث اعتبرت قدوة للنساء خاصة ولجميع الساسة والحكام في أداره الأزمات بعدما خرجت بأقل الخسائر وبعد مرور دقائق قليلة من الهجوم سعت بكل ما يمكنها من أجل تهدئة الأوضاع وطمأنة مواطنيها وإعادة الدفء إلى قلوب مسلمي البلاد لتجسد بذلك مفهوم "القيادة" الحقيقي حين طغت إنسانيتها على المنصب والنفوذ وزارت عائلات الضحايا "مرتدية الحجاب" كردة فعل قوية وجريئة على الإرهاب الأسود وللتعبير عن تضامنها معهم فاحتضنتهم وطمأنتهم لتظهر لهم الاحترام والتعاطف الحقيقيين وقالت لهم " هذه ليست نيوزيلندا التي عرفناها لقد تم جلب هذا العمل الإرهابي إلى شواطئنا وأمطر علينا " .

وكم كان خطابها أمام البرلمان النيوزيلندي شجاعا ومؤثرا حين حيتهم بالعربية "السلام عليكم " .

ثم قالت لقد سعى "منفذ الهجوم لتحقيق أمور كثيرة من عمله الإرهابي منها الشهرة ولهذا لن تسمعوني أبداً أذكر اسمه وأناشدكم أن تتذكروا أسماء ضحايا الهجوم بدلاً من اسم منفذه إنه إرهابي إنه مجرم متطرف وأن القانون سيطبق عليه بحذافيره و قد حثت النيوزيلنديين على المشاركة في تعزية الجالية المسلمة لرمزيته الدينية عند المسلمين وبعد أسبوع بالتمام على الاعتداء رُفع الأذان في جميع أرجاء نيوزيلندا يوم الجمعة في إجراء استثنائي وان رفع الآذان ليس نصراً للإسلام فحسب إنما هو نصرا حقيقي لمبادئ نيوزيلندا وإنسانية شعبها ومن يحكمها تلك الدولة التي تساوي بين الجميع وتحترم كل مواطنيها .

وقد وقف الآلاف بينهم جاسيندا أرديرن والناجون وبعض المصابون دقيقتي صمت تكريماً للضحايا وأوعزت لمصلحة الهجرة النيوزيلندية بإصدار تأشيرات عاجلة لعائلات الضحايا في الخارج الذين يرغبون في حضور مراسم الدفن وأعلنت عن بدء إصلاحات في قوانين حمل وحيازة السلاح في البلاد وحظر بيع أو اقتناء الأسلحة الإلية الرشاشة كتلك التي يستعملها الجيش وجمع الموجود منها في أيدي المواطنين وأصدرت تعليمات صارمة لوسائل الإعلام قبيل بدء تشييع الجنائز وطلبت منها عدم مضايقة عائلات الضحايا ودعت منصات وسائل التواصل الاجتماعي إلى بذل المزيد من الجهد لمكافحة الإرهاب بعد أن بث منفذ الهجوم لقطات حية من هجومه على موقع فيسبوك وفالت لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي وأن نقبل ببساطة أن هذه المنصات لا تتحمل مسؤولية ما ينشر فيها ولا يمكنهم أن يجنوا الأرباح فقط دون تحمل المسؤولية .

وأننا إذ نتشرف بالانضمام إلى فريق الالكترونيين العالميين المطالبين بمنح جائزة نوبل للسلام إلى رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا آردرن على خلفية تعاملها مع مجزرة المسجدين ولنجاحها الباهر في تخفيف الآثار السلبية التي خلفها الحادث الإرهابي ولمواقفها الرافضة لسيطرة أفكار اليمين المتطرف العنصرية ولدعوتها الى تنظيم حملة عالمية لاجتثاثها والتأكد من عدم توفير مناخ تنمو فيه ولرفضها المطلق لتبريرات المدعين أن ارتفاع عدد المهاجرين يتسبب في زيادة مستوى العنصرية وتنامي مثل هذه الأفكار المتطرفة وقد تجسد ذلك في ردها الصارخ على السيناتور الأسترالي فريزر أنينغ الذي استغل مجزرة المسجدين لإلقاء اللوم على المهاجرين المسلمين والدين الإسلامي ووصفت موقفه " بقمة العار " ورفضت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن بالإرهاب اليميني لا يتزايد وقالت له لا مشددة على أن الإرهاب اليميني المتطرف يتزايد بشكل كبير وواضح في أوروبا وأمريكا وهذا الاعتداء الغاشم جزء من منظومته الكريهة .

وعلى العالم اجمع أمام تنامي هذه الظاهرة الخطرة ضرورة التركيز على القيم الإنسانية المشتركة والقواسم التي تسهم في تعزيز التعاون بين الجميع وتحقيق العيش الآمن وضرورة تعزيز مفهوم الأمن الإنساني الشامل والديمقراطي القائمة على مبادئ المساواة والعدالة والأخوة الإنسانية والمواطنة و التضامن للقضاء على الأفكار والأيديولوجيات المليئة بالكراهية والعنصرية والإقصاء والاستعلاء .

يذكر أن جاسيندا تعتبر اصغر امرأة في العالم تتولى قيادة دولة فهي من مواليد 26 يوليو 1980 ومن أصغر زعماء بلدها خلال 150 سنة الماضية وصلت الى المنصب عام 2017 وهي أول امرأة تنتخب للمنصب بشكل مباشر وتعتبر ثالث امرأة تتولى منصب رئيس الوزراء في بلدها وهي رئيسة الوزراء ال 40 وثاني زعيمة في العالم تنجب وهي قي الحكم بعد رئيسة وزراء باكستان الراحلة بناظير بوتو وقد أصبحت أول رئيسة وزراء تحظى بإجازة أمومة بعد الولادة واشتهرت بأنها كانت تجلب رضيعتها الى مجلس الأمن الدولي وهي أيضا ذات خلفية فكرية وتعليمية وسياسية محترمة قادتها للمقدمة ولا تخشى الحديث علناً ضد المعايير المزدوجة وقد أحدثت تحولا كبيرا في مسيرة حزب العمال الذي تنتمي إليه من خلال برنامجها الذي ركز على جعل نيوزيلندا مكانا أفضل للعيش في مختلف المجالات ذات الأولوية في الحصول على السكن والحد من فقر الأطفال والتصدي لتغير المناخ وزيادة الحد الأدنى للأجور وتمكين الشباب من الوصول إلى التعليم العالي إلى وكسر الحواجز التي تحول دون تشغيلهم وقد عرف عنها أنها لا تخشى الحديث أيضا بصراحة عن الصحة العقلية التي تشكل قضية ملحة في نيوزيلندا حيث تزداد معدلات الانتحار .

وقد ظهرت تلك السيدة العظيمة رئيسة وزراء نيوزيلندا من جديد كرمز وطني وعالمي بالغ التأثير في السياسة العالمية التقدمية إنسانيا وأخلاقيا وسياسيا بعدما اثبت أنها امرأة على قدر عالي من الحكمة والمسؤولية ومثلٌ يحتذى للقيادة الحكيمة والتربية والفضيلة والأخلاق والعدل في بلدٍ يتسم بالتعدد الديني والثقافي والاجتماعي يركز على المهاجرين للاستمرار في البناء والتقدم وهي قلقة اليوم على المستقبل في بلدها والعالم جراء تغلغل اللغة السوداء المُعادية للمسلمين والمهاجرين ومتوجسة أيضا من تزايد مخاوف المجتمع من توسع وانتشار العنف والإرهاب الغربي الأبيض بدل تعميم رسالة العيش المشترك واحترام الآخر والانفتاح والمحبة والسلام .

كل الاحترام والتقدير لهذه الإيقونة الإنسانية الرائعة ولجميع أبناء الشعب النيوزيلندي المتلاحم والطيب والشكر والامتنان لكل أحرار العالم ممن استنكروا وتألموا لهذه الجريمة النكراء ورحمة الله وغفرانه للشهداء الأبرار ونسأل الله الشفاء العاجل للجرحى والمصابين والحمد لله على كل حال .

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات