أزمة الصواريخ الروسية اعتراض أمريكي وإصرار تركي


تمر تركيا بفترة حساسة وخطيرة من تاريخ أمنها القومي بعدما أكدت على عدم تراجعها عن شراء صفقة متطورة من منظومة الدفاع الإستراتيجية الروسية المضادة للطائرات أس 400 رغم مطالبة عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي باتخاذ عقوبات عاجلة ضدها مما أعاد أجواء التوتر والخلاف بين أمريكيا وتركيا من جديد بعد اعتراض الأولى على امتلاك انقره لهذا النوع من الصواريخ خاصة بعد أتفاق تركيا وروسيا على تقريب موعد تسليم الصفقة إلى تموز المقبل من العام الحالي ومع ضيق هامش المناورة السياسية والدبلوماسية أصبح من من المؤكد ووفق مجريات الواقع المشهود بان الوقت ينفد سريعا أمام تركيا لتجنب المواجهة مع أمريكا بعد تهديدها المتكرر بعدم بيعها أسلحة متطورة وفرص عقوبات قاسية ستؤثر على الاقتصاد التركي من بينها إلغاء العديد من المزايا التجارية الجمركية التفضيلية التي كانت تستفيد منها تركيا بهدف الضغط عليها من أجل إلغاء قرار شرائها منظومة الصواريخ الروسية وان مثل هذه الخطوة تشكل بالفعل ورقة ضغط قوية بيد الأمريكان مثلما حدث عندما قرروا فرض عقوبات اقتصادية على أنقرة العام الماضي لدفعها لإطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برونسون الذي كانت تحتجزه لبضع سنوات بتهم الإرهاب حيث دفعت تلك العقوبات بالاقتصاد التركي نحو أزمة أدت إلى انهيار قياسي في قيمة الليرة وان الوضع الاقتصادي التركي لم يتعافى كليًّا حتى الآن ولازال في وضع خطر .

بإلاضافة إلى وجود العديد من الخلافات بشأن الإستراتيجية في سوريا والعقوبات على إيران واعتقال موظفين بالقنصلية الأميركية دون حل وتهدد قضية الدفاع الصاروخي بتوسيع هوة الخلاف خيث تتسلح واشنطن بقانون العقوبات الأمريكي الشامل والمعروف باسم ( قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات ) والذي يجيز معاقبة الشركات والمؤسسات الخاصة والأشخاص الضالعين في شراء المنظومة الصاروخية الروسية المشار اليها .

ورغم رفض أنقرة طلب واشنطن إلغاء الصفقة مع روسيا واعتبار الأمر محسوم ولا يمكن التراجع عنه أبدا لأنه تصرف غير أخلاقي وهي تسعى لإبرام اتفاق أكبر لشراء نظام أس-500 من موسكو والتعاون حول إمكانية نقل التكنولوجيا لاحقا إلا أن تركيا أعلنت استعدادها لمراعاة مخاوف أمريكا بشأن المخاطر المحتملة على طائرات الناتو أو انتقال تكنولوجيا صواريخ باتريوت الأمريكية في تركيا إلى روسيا إلى جانب تحفّظ أمريكا على تغلغل موسكو في منطقة الشرق الأوسط و قد أعلنت بوضوح اهتمامها بأمن حلفائها فيما يتعلق باستخدام أنواع جديدة من الأسلحة التي تحصل عليها من دول خارج حلف شمال الأطلسي ومع هذا الإصرار التركي يجد أردوغان نفسه بين نار التهديدات الأميركية وإلغاء صفقات مقاتلات إف-35 والعقوبات الاقتصادية ونار الحليف الروسي الذي لا بمكن التخلي عنه في سوريا ووجود صفقات تجارية ضخمة بين البلدين وقيام روسيا ببناء محطة للطاقة النووي في تركيا وخط أنابيب لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر اراضيها .

وبعد عامين من تقديم طلب الشراء التركي لصواريخ باتريوت والتسويف والمماطلة وفي محاولة لإقناع أنقرة بالابتعاد عن الصفقة الروسية عرضت وزارة الخارجية الأمريكية بيعها نظام باتريوت الصاروخي الأميركي الذي تنتجه شركة رايثيون بصفقة قيمتها 3.5 مليار دولار ولم يرفض أردوغان العرض الأميركي علنا لكنه كرر القول إنه لن يتراجع عن عقد شراء نظام الدفاع الروسي في الوقت الذي تؤكد الإدارة الأمريكية بان تركيا لا يمكنها حيازة النظامين معا وإذا مضت تركيا في إتمام الصفقة الروسية فإنها تخاطر أيضا بألا تتسلم طائرات إف-35 الشبح المقاتلة التي تنتجها شركة لوكهيد مارتن الأميركية رغم أن أنقرة ساهمت في تمويل صناعة هذه الطائرة ويمكن أن تواجه عقوبات بمقتضي قانون أميركي يعرف بقانون التصدي لخصوم أميركا من خلال عقوبات أخرى ويؤكد المسؤولين الأتراك أن العلاقات بين أنقرة وواشنطن تشهد توتراً مستمراً بسبب الخلاف حول عدد من القضايا ذات الصلة بالبلدين .

ومن المعلوم انه وبعد 5 عقود من المفاوضات لم تنجح تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي وتجد نفسها اليوم أمام تصاعد خطاب كراهية يجاهر بمنعها من دخول النادي الأوروبي في ظل تصاعد التيار اليميني القومي عاماً بعد عام في القارة العجوز وإن عرقلة واشنطن بيعها منظومة باتريوت وسحب بطاريات الحلف من أراضيها عام 2014 في قمة مرور المنطقة بتوترات مصاعدة من ناحية ظهور تهديد تنظيم الدولة وتصاعد هجمات حزب العمال واشتداد الأزمة السورية مما دفعها للتوجه إلى موسكو من أجل تلبية متطلباتها الدفاعية الصاروخية وحماية أجوائها من الخطر المحدق بها ولم يجبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمحاولاته إضعاف الليرة التركية الا الدفع بأنقرة الى أحضان روسيا والصين اقتصاديا بل والآن سيدفعها الى تصنيع الصواريخ الباليستية بعد إمكانية نقل التقنية الروسية وتبادل الخبرات المشركة إضافة إلى وجود تقارير لمعاهد إستراتيجية غربية تؤكد أن تركيا قد تغادر حلف الأطلسي وتجمد مطلبها بالالتحاق بالاتحاد الأوروبي وتتوجه الى دول البريكس وهي الصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند .

وفد وقعت تركيا نهاية عام 2017 اتفاقية مع روسيا في أنقرة لشراء منظومة الدفاع الصاروخي " إس-400" لتصبح الأولى من دول حلف شمال الأطلسي التي تشتري المنظومة الصاروخية والتي تعتبر أحد أكثر الأنظمة تطوّراً في العالم ويستطيع تدمير أهداف تتحرك بسرعة 5 كيلومترات بالثانية ومن ضمنها الطائرات والصواريخ ذاتيّة الدفع ومتوسطة المدى والصواريخ المجنّحة وتبلغ سرعة هذه الصواريخ ضعف سرعة صواريخ الباتريوت ونطاق استهدافها يبلغ ثلاثة أضعاف في حين تتحول لوضع قتالي بشكل أسرع 5 مرات وباستطاعتها توجيه عدد صواريخ أكبر بـ13 مرة وهي قادرة على اعتراض الطائرات والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز وتتميز بسهولة استعمالها .

وهذه المزايا عالية التقنية تقف وراء تحفّظ واشنطن على وصول هذه المنظومة إلى تركيا لان هذا السلاح المتطور سوف يعيد رسم خريطة التوازنات العسكرية في المنطقة وقد سهلت روسيا وصول هذه الصواريخ إلى زبائنها وحلفائها رغبة منها في استعادة بعض من هيبتها التي كانت في زمن الاتحاد السوفيتي السابق ويبدو من ذلك ان روسيا تؤسس لنظام عدم انحياز جديد في العالم ببيعها الصواريخ الدفاعية لأنقرة أما واشنطن فهي تتعامل باستعلاء مع الجانب التركي وتتحفّظ على نقل المعلومات والخبرات العسكرية لحلفائها فضلاً عن ذلك تقدم أمريكا الدعم السري لقيام دولة كردية في خاصرة تركيا الجنوبية الرخوة وهذا أمر يهدد بتفكك الدولة التركية ضمن رؤية الشرق الأوسط الجديد الذي قرأنا الكثير عنه عبر التقارير الإعلامية وإن تطور مستوى التعاون التركي الروسي يؤهل أنقرة للدخول إلى شكل افضل من أشكال عدم الانحياز في صراعات المستقبل وهذا الأمر يُرعب الغرب بشكل كامل لأن أمريكا تدرك أن امتلاك تركيا منظومة الدفاع الروسية المتطورة سيفتح الباب أمام دول أخرى مقرّبة منها لهذا المجال ما يعني استحالة استمرارها في الحفاظ على سلطتها ونفوذها في العالم لذلك ولهذا تعمل على ثني تركيا بأي ثمن لجعلها عبرة لحلفائها الآخرين في المسقبل .

وعلى الرغم من معارضة الناتو والولايات المتحدة ودول غربية أخرى فمن المقرر أن تبدأ تركيا الصيف المقبل استلام منظومة الصواريخ من نوع أس 400 حيث يعتبر هذا الملف من أكثر نقاط الخلاف خطورة بين الاطراف .

يذكر ان العلاقات الروسية التركية قد خرجت من أزمة سابقة على خلفية إسقاط الجيش التركية للطائرة الروسية في العام 2015 ثم ما لبثت تركيا ان بذلت جهودا استثنائية وقدمت العديد من التنازلات حتى تمت العودة بالعلاقات إلى سابق عهدها مع تحالف استراتيجي على صعيد التسليح أدى إلى عقد هذه الصفقة الثمينة والمتميزة .

mahdimubarak@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات