الميزانية ..


ثقافتي الريفية التي اعتز بها وعشتها في طفولتي في بلدة «سحاب» القديمة في بداية الستينات من هذا القرن, اكسبتني هذه الثقافة الكثير من التجارب والخبرات الحياتية لا سيما المرتبطة بواقع الحال الذي نعيشه هذه الايام, ومن هذه التجارب والخبرات مراحل صوت رّحى (جاروشة الحبّ) التابعة لجدتي رحمها الله عندما كانت تقوم بجرش الحبوب كالقمح والعدس في المنزل,..تلك الاصوات تشبه بالضبط مراحل صوت الحكومات المتلاحقة وهي تتعامل مع الميزانية في كل عام, والرّحى لمن لا يعرف الرّحى هي أداةٌ قديمةٌ تتكون من حجرين مستديرين من حجارة البازلت الأول في الاسفل ثابت, والثاني للأعلى مُتحرك, ويتم لفِّه ودورانه على الحجر الاسفل للرّحى ليتم جرش الحبوب وطحنها بين شقّيّ الحجرين.

صوت رّحى جدتي كان له درجات ومراحل ويعتمد ذلك على نوع الحبوب التي كانت تريد جدتي جرشها والتحكم بمدى خشونتها أو نعومتها, ويعتمد كذلك على سرعة حركة ودوران حجر الرّحى العلوي المستدير حول محور الرّحى والمثبت على الحجر السفلي,..كانت جدتي وعلى ما اذكر تسمي صوت الرّحى عند بداية دورانها بــ(الهرير), وبـ(الحفيف) عندما كانت تطحن الحبوب ببطء, وعند زيادة سرعة الدوران كانت تسميه بـ(الهزير), وبـ(الجعجعة) حين تطحن الحبوب بسرعةٍ عاليةٍ, وعندما تبدأ بجرش الحبِّ وطحنه ونزول الحب المجروش على الجوانب كانت تسميه بـ(الكركرة), وبـ(السّحيف) بعد طحن الرّحى للحبوب وتوقف الدوران تدريجيا,..انها اصوات لها دلالاتها ومعانيها ومراحلها عند جدتي وعند الاسر والبيوت الريفية البسيطة وقتها والتي كانت تقتني هذه الاداة, ولا يكاد بيت من البيوت ان يخلوا وقتها من هذه الاداة المنزلية ذات الاصوات المتباينة اثناء اللف والدوران.

ميزانيات الحكومات تأخذ تماما نفس مراحل أصوت «رّحى» جدتي رحمها الله, فعند بداية السنة الجديدة وعند اقرار الميزانية والتوقيع عليها ومباركتها نسمع صوت (الهرير) قد بدأ, وبعد مضي شهرين من عمر الميزانية وازدياد النفقات نسمع (هزيرا) في الافق, وبعد تجميد العطاءات التي لم تنفذ بعد تتردد على مسامعنا اصوات(كركرة) هنا وهناك,..ومع نفاذ ارصدة العطاءات التي لم تستكمل يأتينا (السّحيف) من بعيد وما ادراكم ما السّحيف, وللتخلص من ما تبقى من خطط مستقبلية تتسلل الينا اصوات (جعجعات) متلاحقة تارة ومتقطعة تارة اخرى, وفجأة يخيم علينا (حفيف) هادئ يرافقه اغلاق سجلات الفائض وسجلات العجز لنبدأ بالإعداد والتجهيز لميزانية جديدة لعام جديد.. وهكذا.

حين كانت جدتي تمسك بــ(هادي) الرّحى, والهادي هو عبارة عن عصا طويلة أشبه بالمقبض والمُثبَّت على الحجر العلوي، حيثُ يكون لها ثقب جانبي يتم تثبيتها من خلاله ونمسك به للفِّ الرحى لتدور وتطحن الحبوب, كانت جدتي وقتها تعرف كيف تدير الرّحى من اليسار الى اليمين باتجاه حركة عقارب الساعة, وكانت تغني اغنية (والورد فتح يا زارعين الورد),..والاسئلة المستديرة هنا هي, هل تعرف الحكومة الموقرة كيف تُدير الميزانية, وهل تعرف الحكومة كيف تمسك بــ(هادي) الميزانية, واكثر من ذلك هل تستطيع الحكومة الموقرة غناء (والورد فتح يا زارعين الورد) على الطريق الريفية.

اعتقد جازما ان هناك اشياء مشتركة وكثيرة ما بين ميزانية الحكومة ورّحى (جاروشة الحبّ) جدتي رحمها الله,..اقلّها في هذا المقام هو جهة اللف و(الدوران), ومقدار (الحفنة), وطريقة الامساك بـ(الهادي),..والبقية عندكم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات