مُظاهرات أم مُؤامرات .. عن المَشهد “غير الحضاري” في الأُردن


جراسا -

خالد الجيوسي*
بَدا المشهد في الأردن أمس مساء الخميس، وكأنّ ثمّة ما تم له الإعداد مُسبقاً، فلا المُحتجّون هُم أنفسهم المُحتجّون ضد الغلاء وارتفاع الأسعار، وقانون الضريبة “المُعدّل” يوم الحِراك الرمضاني الشَّهير، ولا حُماة الحِمى قُوّات الأمن، الذين كانوا في خدمة “المُتظاهرين” حينها، لا “الاعتداء” عليهم أمس هُم ذاتهم، مع التحفّظ على كلمة اعتداء، فمسوؤليّة رجال الأمن هي تطبيق القانون، واستتباب الأمن.

قد تكون الصُّورة غير مفهومةٍ أو مُشوّشة، فيوم الخميس كان قد بدأ بمؤتمر صحافي للناطقة باسم الحكومة جمانة غنيمات، وكانت قد حذّرت السيدة “الصحافيّة السابقة” ورئيسة التحرير، من مُعارضة خارجيّة تُحرّض الأردنيين على التظاهر، وتُطالب بالملكيّة الدستوريّة، وغيرها من تصريحات غامضة، أوحت للمُراقبين للشأن الأردني، أنّ ليلة الخميس “المُفترضة” لن تمر مُرور الكِرام، وهو ما حصل، فالحُكومة الأردنيّة كانت قد استدعت أكثر قوّاتها خُشونةً والمعروفة باسم “قُوات البادية”، للتصدّي للمُتظاهرين الذين حاولوا الوصول إلى “الدوار الرابع” مقر رئاسة الوزراء، والجميع هُنا في الأردن يعرف أن لا تساهل مع تلك القُوّات.

في عقليّة المُؤسّسة الأردنيّة الحاكمة، هُناك مفهوم “يتقبّل” فكرة التظاهر، بل ويعتبرها جُزءًا لا يتجزّأ من بنود الدستور، ويعتبرها تعبيراً حضاريّاً عن ما يرغب به المُواطن الأردني، ونوعاً من مُمارسة الديمقراطيّة، وبالفِعل خصّصت الحُكومة الأردنيّة ساحة “مستشفى الأردن” الواقعة في مُحيط الدوار الرابع، وكان رئيس الوزراء الأردني عمر الرزاز قد دعا المُتظاهرين إلى حمل يافطات، ومُناقشة قضايا مطلبيّة لتغييرها عبر المُؤسّسات، لكنّه استغرب وحذّر من “التطاول”.

قد يقول قائل أن الدولة الأردنيّة ربّما رغبت في أيّام تظاهرات رمضان التي أسقطت حكومة الدكتور هاني الملقي، وسحبت قانون الضريبة الذي عاد لاحقاً، السّماح بنجاح تلك المُظاهرات، وإرسال رسائل مفادها أننا بحاجة الدعم الاقتصادي أو الأموال “المقطوعة” خليجيّاً، وهو ما رفع قيمتها بين الدول الديمقراطيّة، بل وباهت قواها الأمنيّة لاحقاً بأنها من أكثر القُوّات تحضّراً، حتى أنها تفوّقت على الشرطة الفرنسيّة في تعاملها مع تظاهرات “السترات الصفراء”، لكن بفارق انضباط الأردنيين، وحرصهم في احتجاجات رمضان على عدم التخريب.

قائلٌ آخر يقول، أنّ الدولة الأردنيّة أيضاً لم تمنع تظاهرة الخميس، بل الأخير هو الثالث في عدد “التظاهرات الخميسيّة” التي توالت تِباعاً، بل وخصّصت مساحةً للتظاهر، وسمحت بكُل أشكال التعبير الحضاري، وهو ما لم يلتزم به المُتظاهرون أمس، وحاولوا الوصول إلى “الدوار الرابع″، في دلالة رمزيّة وتظاهريّة أمام مقر مجلس الوزراء الشهير في العاصمة الأردنيّة عمّان، وهو الذي لم تسمح به الدولة، واعتبرته مسّاً بالأمن والقانون، وهو ما أدّى إلى احتكاكات بين المُتظاهرين، وبين الأمن، ومعارك “كر وفر”، ومسيرات عشوائيّة هُنا وهُناك.

من يتتبّع ملامح وجوه الشُّبّان الأُردنيين المُتظاهرين الخميس، يجد فيها غضباً مكبوتاً، وإحباطاً ملموساً، ورغبةً بالصُّراخ، والهتاف، أملاً في التنفيس عن مسلسل من الفشل، كانت قد عرضته الحُكومات الأردنيّة المُتوالية على ذاكرة عُقولهم، لكن ما هي مُطالبات هؤلاء تحديداً، وبماذا يرغبون فعلاً، وهل يُدركون الحد الفاصل بين المُطالبة بإسقاط الرموز، وبين المُطالبة بحُقوقهم، ومدى خُطورة الأمر على مُستقبل بلادهم؟
لم يكُن المشهد “حضاريّاً” بكُل تأكيد، وكان عُنوان التظاهر الخميسي هو “الفوضى”، ولا نستطيع هُنا تحميل الدولة الأردنيّة مسؤوليًة ما حصل بالكامل، فهُناك من يتساءل عن غاية المُتظاهرين من الوصول إلى “الرابع″، إذا كانت الدولة قد سمحت لهم بالتظاهر وخصّصت مساحةً لهذا الفعل الديمقراطي وتحت حمايتها، فلماذا يلجأ المُتظاهرون إلى كسر الانضباط، وتحويل المسار السلمي للتظاهرات، إلى مسار عشوائي؟، يُعطي لقوّات الأمن تبريرات الاشتباك، وحتى الاعتقالات، وما هي الفائدة المَرجوّة أصلاً من تعطيل سير الحياة العامّة، وإغلاق بعض المُتظاهرين للشوارع بالنوم في الطرقات؟، وهو ما أبعد الزّخم الإعلامي عن ساحة التظاهر الرئيسيّة، وشتّت المطالب الحَقيقيّة الفِعليّة!

نحن هُنا لسنا في وارد تصوير الدولة الأردنيّة وأمنها، بأنها “ورديّة أفلاطونيّة”، فهي أخطأت بالاعتداء على بعض الوسائل المحليّة المرصودة والمُوثّقة، وربّما تسرّعت في استخدام قنابل الغاز المُسيّل للدموع، وحتى لو قنبلة واحدة كما أعلن الأمن في بيان، بل وبالغت في إنزال قوّات البادية إلى الشارع، وأي خطأ بسيط كان يُمكن أن يُحدث كارثة، وهؤلاء الشبّان أبناء المملكة على اختلاف أصولهم ومنابتهم، ليسوا فرقاً مُدرّبة ومُسلّحة، وخلفيتهم الأمنيّة، والعسكريّة، تأتي بكثيرها من لعبة “الببجي” الشهيرة، ولا ننسى ما أصاب رجال الأمن جرّاء التدافع، حتى نكون مُنصفين.

إذا كانت عودة المُتظاهرين على هذه الشاكلة “العشوائيّة” التي شاهدناها، فنتمنّى عليهم عدم العودة، أو الجُلوس على طاولة، وكتابة مطالبهم، وأولوياتهم، ومعرفة خطواتهم الاحتجاجيّة السلميّة المُقبِلة، وهي مُطالبات مُحقّة بلا شك، ورفعها والهتاف بها في تظاهرة حضاريّة تُعبّر عن أفكارهم، وتطلّعاتهم، أمّا في غير هذا، لن يكون إلا استفزازاً للسلطات، وإجبارها على اتّخاذ منحى تصعيدي قمعي، تحت عناوين حفظ الأمن والأمان، وما إلى هُنالك من عناوين وصفها بعض الإعلاميين الأُردنيين بالأساليب الخشبيّة.

كُنّا لا نُؤمن بنظريّة المُؤامرات كثيراً، وربّما لا زلنا نرفضها في بعض وجوهها، لكن الثَّابِت وبعد أحداث الربيع العربي، أنّ دُوَلاً بعينها، كانت تحت تأثير التآمر لتحقيق غايات سياسيّة، ولكن نعتقد أنّ تعامل الدولة ونظامها بغض النظر من هي هذه الدولة، مع الأحداث المُفتعلة في بداياتها، بحِكمة ودهاء، والتي قد تُستغل لصُنع المُؤامرات لاحقاً، هو ما قد يُجنّب هذه الدولة لاحقاً، خراباً، ودماراً أُريد لها، أو قد يُجنّبها اتّهامات اللامصداقيّة، كما جرى مثلاً وضع علامات استفهام على تصريحات الناطقة باسم الحُكومة الأردنيّة غنيمات حول مُؤامرات المُعارضة الخارجيّة، أو “الشائعات” التي تم تداولها حول وجود “مُؤامرة خليجيّة” ضِد الأردن.

خِتاماً، نتمنّى من الله جلّ جلاله، أن يحفظ الأردن من أي مكروه لأهله وشعبه “النَّشامى”، وأن يُشتِّت شمل المُتآمرين إن وجدوا، لكن ربّما على كلا الطرفين إعادة تعريف معنى الحُريّة الذي سمعناه يتردّد بين المُتظاهرين، فالبنسبة للدولة هو شعار “إسقاطي” وخط أحمر، وبالنسبة للمُتظاهر هو شعار “ثوري”، لكن الثابت في كُل هذا، أنّ الحُريّة بمفهومها الحالي للثورات التي اجتاحت بلادنا العربيّة، هي حُريّة فاسدة، بائسة، يائسة، لا تجلب إلا الفشل، ثم الخراب والدمار، وهو ما لا ينقص الأردن أبداً.
كاتب وصحافي فلسطيني



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات