عرب… على رصيف «الحلم التركي»


بدا المشهد سياسيا بامتياز ومثيرا للسخرية في كل المسارات: يلتقط شاب ملامح سحنتي العربية وأنا احتسي فنجان قهوة على رصيف أحد مقاهي منطقة تقسيم وسط اسطنبول في الصباح الباكر.
يعالجني الشاب بالسؤال التقليدي: الأخ عراقي؟
يفهم الرجل بأني أردني وأفهم بأنه من دولة الإمارات العربية وبعد الاستئذان في الانضمام الي يدور نقاش مهم ومثير لكن ليس هو موضوعي الآن فالرجل يعمل في وظيفة خاصة ومهمة.
ما يهمني في رفيق الصدفة الإماراتي هو السبب الذي دفع به في فصل الشتاء لزيارة سريعة إلى اسطنبول، فقد هرب من ضغوط استحقاقات العمل والعائلة وأراد الاسترخاء لفترة قصيرة في المدينة التركية الكوزموبولوتيكية.
الشاب قرر الانطلاق من مقولة «أداء موسم الحج وبيع المسابح» في نفس الوقت ويخطط لإقامة شركة صغيرة في اسطنبول.
سؤالي المهم ما الذي يدفع أحد رعايا دولة الرفاهية المليئة بالفرص للتفكير بالاسترخاء والاستثمار في مدينة مثل اسطنبول.
في مشهد آخر كنت في جولة في انقرة مع صديقي التركي الفلسطيني.. جلسنا في أحد المطاعم فتعارف علينا رجلان وبعد الحديث تبين أن احدهما سعودي ويخطط لإقامة مصنع كبير للزجاج والثاني شريكه العراقي ويبحث عن منزل للاسترخاء على ضفاف البحر الأسود.
أعرف شخصيا 20 شخصا على الأقل من الأردن يخططون الآن لشراء شقة في تركيا.
وأعرف بحكم المهنة والعمل والتواصل بأن عدد الأردنيين الذين وقعوا أوراقا لشراء منازل صغيرة ومتوسطة الحجم وشقق في تركيا فقط خلال الاشهر الأربعة الماضية يزيد بنسبة 150٪ عن عددهم في عمان الغربية.
قابلت في تركيا وبعدة زيارات اصنافا كثيرة من المواطنين العرب الباحثين اما عن متعة واسترخاء وهدوء او عن شقة ومنزل او عن استثمار.
لا أحد يمكنه ان يتخيل عدد السعوديين والأردنيين الذين يفكرون اليوم بإقامة مصانع للحليب تحديدا ومزارع للأبقار في مدينة بورصة التركية.. انا فقط اجتمعت بخمسة أردنيين وثلاثة سعوديين في اسبوع واحد.
قابلت رجل أعمال ليبيا بالصدفة يريد بناء جامعة وأعلم علم اليقين بان نخبة من الأكاديميين ورجال الأعمال الأردنيين الذين أعرفهم شخصيا يخططون لجامعة متخصصة في الطب في تركيا.
قابلت ايضا صاحب رأسمال فلسطينيا يقيم في الإمارات وآخر يقيم في قطر وكلاهما يبحث عن الاستثمار في قطاع صناعة الزجاج وسمعت أحد الفلسطينيين المقيمين في السعودية وهو يتحدث على الهاتف مع صديقي التركي بان لديه مليون دولار وخبرة كبيرة في صالات تنظيم الاعراس والاحتفالات ويخطط للانتقال والاقامة في تركيا هو عائلته ويبحث عن كلفة المعيشة.
ليس سرا اني قابلت في المطار عراقيين وأردنيين وفلسطينيين يريدون إقامة مطاعم في تركيا أو الاستثمار في زراعة القطن او تربية الدواجن والمواشي.
وليس سرا أن عدد الذين أعرفهم من زملائي واصدقائي ومعارفي الذين يستفسرون عن شراء شقة أو مدارس للأطفال في تركيا أكبر بكثير جدا من عدد الذين يخططون للإقامة في الولايات المتحدة أو أوروبا والسبب ان تركيا متاحة وبأسعار أقل.
وليس سرا أن الجامعات التركية تستقطب اليوم أكثر من مئة الف طالب عربي وان الأسواق في اسطنبول مثلا تتحدث باللكنة السورية وبعض الأرصفة التجارية في هذه المدينة الكبيرة يبيع ويشتري ويتحدث عنها مصريون مع عائلاتهم.
استمعت لسعودي من علية القوم وهو يعبر عن رغبته في إقامة محطات تلفزيون عصرية لخدمة الإسلام والمسلمين في أنطاكيا وشاهدت بعض المغاربة والجزائريين وشبانا من السودان ورجال أعمال من سلطنة عمان وقطر في كل المرافق التي لها علاقة بالعمل والإقامة والعقارات والعلم والطب في هذا البلد.
أبلغني مسؤولون في جمعية المستشفيات الأردنية عن التطور المرعب في قطاع الطب والعلاج التركي وعن الكيفية التي خطفت فيها تركيا مليارات من الأموال العربية تحت عنوان الاستشفاء والعلاج وزراعة الشعر.
وعن كيفية استقطاب تركيا للمرضى الذين كانوا يحضرون إلى عمان بهدف العلاج ويدفعون على الأقل مليار دولار سنويا من ليبيا والسودان واليمن والعراق وكيف ان هؤلاء تبخروا من الأردن واستقطبهم التركي لأن احدا ما في مواقع القرار الأردنية قرر قبل عامين فرض قيود على تأشيرات رعايا هذه الدول من المرضى.
لا نذيع سرا إذا قلنا اننا قريبون من الفهم والموقف التركي لقضايا المنطقة السياسية لكن نختلف مع المؤسسات التركية الحاكمة حاليا في الكثير من المناطق وعند الكثير من التفاصيل.
ذلك لا يمنع من الإقرار بان تركيا الخارجة للتو من انقلاب عسكري والتي تآمر عليها نصف العالم اليوم هي ذلك البلد الذي تستقطب تجربته المتعبين من أبناء العرب والمصابين بأمراض الوطن والذين تؤلمهم أوطانهم والباحثون عن قليل من الاستقرار وقدر من الاحترام وحصة من الاسترخاء والتعليم والكثير من الأمن والأمان.
يمكن توجيه اللوم إلى تركيا سياسيا في عدة مناطق لكن علينا ان نلوم أنفسنا عندما تتكرس القناعة بان النظام العربي الرسمي بلا مشروع حقيقي وبان المواطن العربي متألم وضجر وقلق وغير مرتاح في وطنه وبان الحلم التركي يراود كثيرين منا.
تلك الحالات التي استعرضناها بلغة بسيطة هي قرينة ليس فقط على تفوق وصدارة واهمية التجربة التركية ولكن وهذا الاهم على عجز وفشل اقامة علاقة دافئة بين الدول العربية ورعاياها.
ينبغي ان نتوقف عن اللغة الخشبية في التهديد من مخاطر مشروع الدول الإقليمية الكبيرة المجاورة لنا في المنطقة.
الطريقة الوحيدة للتصدي هي بإقامة مشروعنا العربي وما يحصل على أرصفة المدن التركية اليوم من اندفاعة بحثا عن الهجرة والأمن والإقامة والمنزل وفي بعض الحالات عن الاستثمار حجة على حكومات العرب وليس على شعوبها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات