الاحتفال بالمولد النبوي اتباع ومحبة


تحدثنا في المقال السابق عن الصراع الدائم بين حكم سد الذرائع في منع الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم وبين حكم الوسائل لها حكم المقاصد وعليه يجري كل سنة تجديد الصراع واتهامات متبادلة بين طرفي الصراع.

ومن باب توضيح ان مَنْ ردّ الغلو بالتساهل غشّ الناس ... ومَن ردّ التساهل بالتشديد نفّر الناس .. لذلك فاعتدل وارفق واتّبع الحق ..

وتحقيقا لقوله تعالى في وجوب اتباع الاجماع والتحذير من مخالفته {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}

في هذه المقالة أكمل ما بدأنا به في تبيان حقيقة حكم الاجماع الذي سار عليه أهل العلم من المذاهب الاربعة وقت ظهور هذا الاحتفال على يد الملك ابن بكتكين ملك اربيل في عهد صلاح الدين الايوبي قال الامام السيوطي: وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم من شتى المذاهب الاربعة، وارتضاه الامام المحدث ابن دحية وصنف كتاب (التنوير في مولد البشير النذير ) فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه. (الحاوي/ للسيوطي 222/1)

(ذاكَ يومٌ ولدتُ فيه)
قال علماء اهل السنة في أصول الفقه:
الجملة الخبر ية بمعنى الأمر ... فصيغة الإخبار ليس الخبر هو المقصود ، وإنما طلب الفعل ..!! ... قيل هو للوجوب لان الاخبار عن شيء يكون موجودا ! .. وقال الجمهور للاستحباب كونه لم يطلبه بفعل أمر مباشر... والفعل في الخبر هو احتفاء بيوم مولده .....

أما الصوم فيه فعلى التخيير كذلك كون هذه العبادة معقولة المعنى ويقصدون بذلك انها معروف الحكمة منها ... لذلك يجوز القياس عليها... فلك ان تصلي او تقرأ أذكار وأوراد أو تقرأ السيرة أو تطعم الطعام .. احتسابا وطاعة لله وحده امتناناً على بعثه للرسول كما فعل الصحابة كما روى الترمذي بسند صحيح [ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ ]

ان في هذا الشهر يوم له نفحة ربانية شرفه الله بمحمد ﷺ ... وحُقَّ له ان يسمى شهر رسول الله ﷺ الربيع الانور .. قال العلماء ان لكل إنسان من اسمه نصيب. ونصيب محمد الربيع فهو الربيع للمحبين والربيع للقلوب..

إن فضيلة الأزمنة بما خصها الله به من العبادات التي تُفعل فيها ... فالأزمنة لا تشرف لذاتها، وإنما يحصل لها التشريف بما خصت به من المعاني، فشهر رمضان خُصّ بنزول القران وليلة القدر .. وذو الحجة خص بالحج الاكبر وشعبان خص بليلة المنتصف ومحرم خص بعاشوراء .....

فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف : -
شهر وُلد فيه النبي ﷺ وبُعث فيه ﷺ وتُوفي فيه ﷺ وهاجر فيه ﷺ ووقعت فيه رحلة الإسراء والمعراج بالنبي ﷺ، انه شهر ارتبط بالنبي ﷺمن الناحية الزمنية واضحة .....

لذلك قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله :
( فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله)( الصارم المسلول ص 211 )أهـ
سبحان من كرّمه في السماء وسبحان من ارسله نورا ورحمة وضياء للعالمين الماحي لظلمات الكفر والهادي الى طريق النور...
ايها الاخوة
من زعم ان تكريم محمد بدأه الفاطميون فقد أخطأ ومن زعم ان اول تكريم للملك ابن بكتكين في عهد صلاح الدين فقد اخطأ كذلك...
تكريمُ محمد تكريمٌ الهي ... وتكريمُ اهل السموات قبل ان يكرموه اهلُ الارض .. فهذه اصول الاحتفاء والتكريم لسيد الخلق اجمعين

التكريم الإلهي :
فقد كُرّم محمد قبل الخلق .. قال ﷺ (إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمُنجدِل في طينته) ... لمنجدل: طريحا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه.
وفي رواية (وآدم بين الروح والجسد) قال الترمذي حديث حسن صحيح (3609)
فاول تكريم له كان في نقش اسمه على العرش كما جاء في الحديث الصحيح كما صححه الشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاةى (151/2) :
قال رسول الله ﷺ : لما أصاب آدمُ الخطيئةَ, رفع رأسَه فقال : يا رب بحق محمد إلا غفرت لي! فأُوحيَ إليه: وما محمد؟ فقال: يا رب أنك لما أتممتُ خلقي رفعت رأسي إلي عرشك فإذا عليه مكتوب لا إله إلا الله، محمد رسول الله ...
ثم قال رب العزة : (ولولاه ما خلقتك) ... !!
فأي تكريم أبهى وأسمى من هذا التكريم الذي حظي به سيدنا محمد ﷺ

تكريم اهل السماء :
في حادثة الاسراء والمعراج عندما صعد به جبريلُ عليه السلام الى السموات والذي عليه أكثر العلماء أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناماً ..
• أول تكريم في هذه الحادثة : أن جُمع له الانبياء هناك فأمهم في الاقصى
فدل على أنه هو الإمام الأعظم والرئيس المُقدّم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
• ثاني تكريم : أن رحب به كلُ اهل السماء تكريما له صلى الله عليه وسلم
ذكر البخاري حادثة الاسراء : فانطلق بي جبريلُ حتى أتى السماءَ الدنيا فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد .قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل ( مرحباً به ، فنِعمَ المجيءُ جاء)
 في السماء الاولى رحب به أبونا آدم قال : مرحباً بالإبن الصالح والنبي الصالح
 في السماء الثاني : يحيى وعيسى .. وفي السماء الثالثة : يوسف ، وفي الربعة ادريس والخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة ابراهيم عليهم الصلاة والسلام جميعا
فسلم عليهم جميعا وكلهم وردوا عليه السلام وقالوا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
 عند سدررة المنتهي بعده ذكر منطقة لم يستطع جبريل اختراقها وهو الملك المقرب من الله ولكن محمد كرمه الله وتخطاها .. في الحديث الصحيح أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلم سأل جبريلَ هل رأيتَ ربَّك ؟ فانتفض جبريلُ وقال : يا محمدُ إنَّ بيني وبينهُ سبعونَ حجابًا من نورٍ لو دنوتُ من أدناها لاحترقتُ..
فأي تكريم ابهى واعظم من هذا .. واي تكريم ناله وحظي به رسول الله !!

أما تكريم أهل الارض :
• التكريم الاول : احتفال الصحابة الأنصار في يثرب بقدومه عليهم
وأنشدوا النشيد الخالد
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
ايها المبعوث فينا ** جئت شرفت المدينة
هم يقولون جئت شرفت المدينة ونحن نقول جئت شرفت الدنيا باسرها
وجب الشكر علينا يا سيدي يا رسول الله
فحقيقة الهجرة هي قدومه ﷺ ... وحقيقة المولد هي قدومه ﷺ
قد ثبت في الصحيح ان الصحابة كانوا يجتمعون لشكر الله وامتنانه على ارساله رسوله لهم ﷺ.. كما عند النسائي قال: "..... أتاني جبريل عليه السلام، فأخبرنى أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة" .. لماذا الله يباهي الملائكة ؟
روى النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال معاوية رضي الله عنه: إن رسول الله ﷺ خرج على حَلْقَةٍ ( يعني من أصحابه) فقال: ما أجلسكم ؟ قالوا: جلسنا ندعو الله ونحمده على ما هدانا لدينه ، [ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ ] ......
صدق رسول الله الكريم ﷺ
الشاهد : ومنّ علينا بك يا رسول الله .. أي من الامتنان ... والامتنان هو الشكر ... وحلقة: اي اجتماع لاجل شكر الله على ذلك..

• التكريم الثاني : تكريم قدومه من قبل الاشجار والاحجار
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : (كنت مع النبي ﷺ بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبلٌ ولا شجرٌ إلا وهو يقول : السلام عليك يا رسول الله) .
وقال عبد الله بن مسعود: " كنت أمشي في مكة، فأرى حجراً أعرفه ما مرَّ عليه رسولُ الله ﷺ مرة إلا وسمعته بأذني يقول السلام عليك يا رسول الله". ..

• التكريم الثالث : تكريم اهل السنة والملك بكتكين
أول من احدثه من اهل السنة : الملك العادل ابن زين الدين علي بن بكتكين ملك اربيل في شمال العراق في عهد السلطان صلاح الدين الايوبي
وقصد به التقرب إلى الله تعالى في حب نبيه ﷺ ، وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم من شتى المذاهب الاربعة، وارتضاه الامام المحدث ابن دحية .. فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه...

واما احتفال الفاطميين ... فقد كثرت فيه المنكرات وخرج عن الضوابط الشرعية فلم يقبل بهه علماء اهل السنة... قال الجلال السيوطي رحمه الله : هذا هو عمل المولد الذي استحسناه، فإنه ليس فيه شيء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام، ومدح رسول الله وذلك خير وبر وقُربة ...
واعلموا عباد الله
انها وسيلة تعين على غاية من غايات الشرع الحكيم وهي محبة رسول الله الذي هي شرط صحة للايمان في عقيدة اهل السنة والجماعة فاقترنت الشهادتيان باسمه الشريف اذعانا وخضوعا لله رب العالمين ثم شرط كمال للايمان ... فلا يكتمل الايمان حتى يكون الرسولُ احبُّ اليك من نفسك قال ﷺ : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)
إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم والصبر والسكون والكتم عند المصائب ...
مرحبا بك يا سيدي يا رسول الله .. ونعم المجيء جاء .. كما قال الانبياء
وجب الشكر علينا كما قالت الانصار ... والسلام عليك يا رسول الله كما قالت الاشجار والاحجار...

اعلموا عباد الله ان محبته تسبق اتباعه ، فلا يُعقل احد ان يتابع اخرا الا ويكون محبوبا فلو كرهت شخصا ا جدت فيه انسانا عاديا لن تقلده ا تتاسى به لن يكن قد لك ... فالطبيعي ان تقتدي بمن تحب ... بالحب ستؤثرُ اقوال وافعال المحبوب فوق افعالك فتذيب الفروقات بينكما وتجد نفسك متبعا مقتفيا مقتديا بما يقول ويفعل ... هذا اصل الاتباع

ان اهل السنة استندوا في بيان جواز الاحتفال بمولده ﷺ على اصلين من الشرع الحكيم :
1. الاول استنبطه الحافظ المحدث الامام ابن حجر العسقلاني رحمه الله:
قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون نجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة .. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم ....

2. الاصل الثاني اخرجه الامام الحافظ جلال الدين السيوطي :
وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا بغيره ...بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته..

وصلى الله عليه وسلم



تعليقات القراء

Waleednajee
جزاك الله خير الجزاء مولانا الحبيب
جعلها الله بميزان حسناتكم
29-11-2017 07:11 AM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات