يوميات رجل في خريف العمر


بقلم : ايهاب سلامة - تكتشف فجأة أنك هرمت.. وأن ابناءك الذين كانوا بالامس حجم برعم كبروا، وصاروا أطول منك، وأن فتاة الحي التي لوعت قلبك وهي تتمختر مثلما غزالة ذات عهد بعيد تخاله الأمس، عقدت قران ابنتها قبل يومين ! .. فَتدرك أن الزمن غافلك دون علم ٍ منك، واختلس عمرك..

فجأة فجأة .. ترى الأشياء بمنظور آخر، واهتمامات أخرى، ومقاييس مختلفة.. فالذي كان يدهشك بالأمس يضحي عاديًا، روتينيًا، ويمر أمام ناظريك دونما لهفة ولا شهقة.

تختلف العلاقات التي كنت تلملمها من أزقة الفراغ والصدفة .. تختفي .. تتلاشى مئات الوجوه التي عبرت مشوار عمرك دون ان تخلّف على صفحاته.. بصمة.

تكتشف معايير جديدة للعلاقات.. مفاهيم جديدة للحب، تعيشه منزوياً بأوراقك ومخيالك، مكتفياً، وربما لن تكتفي !..

تلتقي ذات صدفة مع ذاتك .. تكتشف أن فيك صديقاً قديماً طالما عشت معاه وعاش فيك طوال عمرك، دون ان تتعارفا، أو تلتقيا، أو تبثا همومكما لبعضكما، فيصبح صديقك الوحيد في خريف العمر .. نفسك ! .

تعاود أكتشاف الليل، السهر .. متعة الوحدة، الموسيقى، أصوات العصافير التي تزقزق كل فجر على أهداب نافذتك.. توقظك من حلم صباحي لذيذ على تغريدة ألذ، وبقايا حلم لوعك بالأمس يداعب رمشك : صباح الخير حبيبي ..

تتعرف من جديد على صوت إيقاع زخات المطر .. رائحة الخبز الساخن الطازج.. نشوة فنجان قهوة صباحية يعّلم ثغرك فنّ الغواية، مثلما قبلة جنونية مباغتة من شفتين دحنونيتين لا أشهى ..

ترجعُ علاقتك مع الكتب العتيقة التي هَجرتَ مخدعها، قبل ربع قرن مضى، ومضيت.. وما زالت وفية لك، تترقب احتضانك وأنفاسك اللاهثة، وعينيك المفتونتين برواية - بَعدُ عَذراءَ - لم تُقرأ، تكتشف صفحاتها ومفرداتها بنظراتك المدهوشتين لأول مرة ..

فجأة ورغمًا عنك، يتوقف بك الزمان.. يصبح الحاضر والقادم خاليان من اللهفة .. خاويان من التفاصيل الصغيرة التي تشدك وتثير فضولك ودهشتك .. تصل الى "نقطة ارتكاز العمر"، حيث ما فات، ربما يكون أجمل مما هو آت، رغم قهره وأحزانه والآمه وعذاباته ..

تدرك فجأة ..أن كل شيء حولك تغير ..

الناس، المباني، الطرقات، المركبات، الاغنيات، العلاقات، الابتسامات، نكهة السجائر، وسائل التواصل، الغزل، الحب، الجنس، النساء، والرجال الذين ما عادوا رجالا .. كل شيء في المدينة التي يعتريها الذهول تغير .. حتى انت !.

تلمح نفسك ذات صباح بالمرآة القديمة ذاتها .. لتتعرف على شخص جديد، بملامح جديدة.. وخطوط زمنية بدأت ترتسم على ثنايا وجهك، وشعرات بيضاء أخذت تزاحم سواد رأسك ..

وحدها المرايا لا تكذب، ولا تتغير..

لو كانت ناصية الوقت بيدي.. لأعدت عقارب الساعة ثلاثون عامًا للوراء .. ورميت بي في حضن أمي وبكيت .. غفوت .. وأوقفت عقارب الزمن عند تلك اللحظة تمامًا ..

آه ٍ لو كان الامر بيدي !.



تعليقات القراء

رانيا زيتاوي
يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه لجمال بوحك
23-04-2017 11:49 PM
مازن الخضرى
ارقى واقوى واجمل قلم عربي احبه واحترمه والله
24-04-2017 12:02 AM
وفاء اللحام
من اين تاتي بهذا الكﻻم الجميل يا ترى .....ابدعت
24-04-2017 12:03 AM
شمس الضحى
ابدااااااااااااااع جدا جدا جدا
24-04-2017 12:06 AM
ام راس يابس
فعلا الا ليت الزمان يعود بنا يوما للوراء قليلا حيث بساطة العيش وطيبة القلوب والحب الذي كان له معنى
الزمن يركض بنا ولكن الذاكرة لا تخون صاحبها.. وتبقى الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان
ابدعت كما تعودنا على الابداع من قلمك الساحر الجميل
كل التوفيق ومزيد من الابداع
24-04-2017 01:23 AM
غريبة
ان من البيان سحرا
24-04-2017 04:45 AM
محمد عامر
ابدعت
24-04-2017 08:51 AM
انت مبدع
مبدع ، ورائع، من يقرأ لك حرف لا يمكنه التوقف عن القراءة... والله عشت ما هو مكتوب لحظة بلحظة... وللحكابة سراديب لا يمكن البوح لها .... آه ...والف آه...
24-04-2017 09:01 AM
[LDG
تعاود أكتشاف الليل، السهر .. متعة الوحدة،
تدرك فجأة ..أن كل شيء حولك تغير
24-04-2017 11:13 AM
اميره
رووعه .. اه لو كان الامر بيدي
24-04-2017 11:29 AM
نواف الزعبي
شكرا على ماكتبت وكأنك تكتب عني
24-04-2017 11:29 AM
أحسنت وأجدت
ممتاز سيد ايهاب سلمت يمناك وفكرك وعقلك وقلبك .ماشاء الله
24-04-2017 11:54 AM
اتمل الحياة
ما اجمل ما تكتب من كلام جميل رائع كانه موسيقى تداعب الروح
24-04-2017 12:43 PM
اهلين
لقد قشعرت بدني واغرورقت عيني
24-04-2017 01:52 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات