"ريح الصبا" رواية النسيم المنتصر لثورة المرأة الوطن


جراسا -

 

بقلم : صابرين فرعون

عرف العرب "ريح الصبا" منذ القدم بما تحمله من نسائم عليلة، تزيل غمة المكروب وتنشله من عمق حزنه، وقد تغنى بها الشعراء العرب وحمّلوها الشوق وناشدوها الأخبار الطيبة، كما فعل مجنون ليلى وابن الزقاق البلنسي وابن سهل الأندلسي وغيرهم من الشعراء..

وفي التاريخ الإسلامي، قال فيها النبي محمد-عليه الصلاة والسلام- "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور"..
والصبا، بحسب معجم المعاني الجامع، ريح مهبها من مشرق الشمس إذا استوى الليل والنهار، أي مهبها من "الثريا" حتى بنات نعش، وهذا التعريف مفتاح العتبات الثلاث في رواية "ريح الصبا" للروائية الثريا رمضان، تخرج فيه الأنا عن تمثيل نفسها وتتحد والنساء في المجتمع التونسي، ليستند النص على قواعد بنيانية "المرأة، فضاءات العبور، الوطن"، تكسر تابوهات الحرام والعيب بجرأة صريحة، تمسك بيد المرأة من الهامش الدوني الذي تفرضه السياسة الذكورية كطابع شرقي، حاربه الدين باعتباره وأداً وادعاه المجتمع لصون الرجولة..

في رواية "ريح الصبا" ، كان لهذه العنوان المركب دلالات مهمة:
- أولاً: يعكس العنوان كاريزما شخصية البطلة "صبا"، من تمرد على الجبروت الذكوري الذي عايشته منذ طفولتها في مجتمع يلوك بألسنته الطهر كما العهر، ص75 :"أيْ صبا! أيْ طفلة الفجيعة! مازلت تغرقين في إثم القريب الذي هتك براءة طفولتك، حين كان يتحرّش بك وأنت لم تتعدَّيْ الرابعة من عمرك، وإثم الغريب الذي اغتصبك في عزّ شبابك، وأفقدك أعزّ ما كنت تتمنّين إهداءه لمن تُحبّين، ومازلت تضعين تلك الذكريات المقيتة حجر عثرة أمام كل علاقة حب تبدئينها. صار كل الرجال بالنسبة إليك حيوانات وحشية، خوّنتهم جميعا، فخنتِ قلبك."

- ثانياً: في قول حبيب، شخصية رئيسية، ص 124: "خانتنا المسافات يا صبا، صِرنا مُعلّقيْن على حبل غسيل، كُلّما اقترب قميصانا من بعضهما، هبّت الريح فأبعدت أحدهما عن الآخر"، إشارة إلى الانصهار الروحي في بوتقة جسدين يتوق كل منهما للآخر، وإشارة للريح التي جاءت خلافاً لما عرفت به ريح الصبا عند العرب بما تحمله من خير.
في الحوار بين صبا وحبيب يدعي بالحجج الواهية بأن هذه الريح تباعد المسافات بين الحبيبين، ليبرأ نفسه من اللوم والعتاب من قبل صبا عن انقطاعه عنها في السابق وتبرير وعُذر للمستقبل..

- ثالثاً: رسمت الثريا معالم خصبة ل"صبا"، فمثلاً: صبا/ صورة الماء، صبا/ أنا، صبا/الصديقة، صبا/الحبيبة، صبا/الغجرية...
في هذه الجوانب، تتطرق الثريا للبعد الإنساني، لمراحل التطور في العلاقات بين الذات وأناها من جهة، والأنا والآخرين من جهة أخرى..
في مراحل تُعزى للتجارب والدروس، تتغير نظرة الإنسان وتختلف عن السابق فتتلاشى البراءة وتحمل في طياتها حذراً يقيد صاحبه. يُفترض أن صاحب التجربة ينتهج العقلانية في القادم، وهو ما حدث في النهاية مع صبا التي كانت في صراع دائم بين القلب والعقل، ولم تنتبه لنذير العجوز مرتين، الأولى عند نشوب الحريق في الفندق وقلقها الذي تحول لخوف على مصير الغريب/القريب حبيب، والثانية في البحيرة عندما غفا حبيب وظهر لها العجوز بنصيحة..
كسرت حاجز الخوف عندما طلبت الطلاق من زوجها سليم الذي طالبها بإجهاض الجنين من زوجها شكري، وسعت لفترة نقاهة من سجن الزواج، ولكنها سرعان ما وقعت في غرام حبيب، الذي ما توانى عن فرض شخصيته "العسكرية" ليقمع تمردها.
استنزفت المهادنات والحرب الباردة منها طاقة الحياة، لم تكن قادرة على اتخاذ قرار نهائي يحتم عليها إنهاء العلاقة وقبول الخسارة، فبقيت على نفس الوتيرة من الأمزجة والتخبط بين الرغبة والإرادة حتى تدخلت الكاتبة في صنع تلك الكوة لكسر آخر للخوف، تدخلت في رسم الأمل والبدايات الكثيرة للمرأة المسحوقة بأذرع الحب والحرب، رسمت لها ذاكرة شفيت من الرضوخ، فحملت الريح لصبا لقاح السكينة بعد الحرب..

أما عن علاقتها بالآخرين، البعض يحافظ على الحدود المرسومة له في نطاق العلاقات، ويبقى على بر الأمان مع الطرف الآخر، كما زينة، شخصية مُحرِكة، الصديقة التي ساندت صبا في أحلك الظروف، لم تتخلَ عنها، حتى وإن اختلفتا في رؤيتهما في الحوارات الدائرة بينهما، بعكس سنية، شخصية ثانوية، خانت صبا في مرحلة الانغلاق على الذات لاحتواء الغضب والألم، فوقفت مع شكري، شخصية ثانوية، مدعية إصلاح البين وفي الواقع كانت ترسل صديقتها للهاوية في نجاح علاقة تقوم على الجسد لا الحب ولا الأمان، فتتسع فجوة الوحدة والانغلاق والعدمية..

- رابعاً: تقول صبا في حوارها مع زينة ص 203 "كل ما ملكته أو خُيّل إليّ أنّني ملكته طوال سنوات عمري كان منقوصاً، الزوج نقصه الوفاء، الحبّ نقصه الأمان والبيت نقصه الأطفال، حتّى اسمي يا زينة، الذي سمّاني به أبي من فرط عشقه لمقام الصبا الحزين، كان اسم مقام موسيقيّ ناقص".
هناك تون حزين يفضح المكنون النفسي لحظة القول، ذلك النقصان الذي يطمح للاكتمال يقف على حافة شاهقة، إن "هي" التي تمثل المجموع النسائي استسلمت ستغرق في وحل الموت المكرر بتعددية صوره، وإن هي اكتفت بإكمال دورته بلا أثر يُذكر ودون وضع بصمتها كامرأة مالكة لنفسها وجسدها وقرارها سيغدو طريق الاستمرارية والبقاء وحتى الحياة موتاً "ناقصاً" للكرامة..

في طرحها، تسعى الثريا للكسر والتجبير ومعضلة العلاقات الشائكة "الشرعية والمُحرَمة"، فتحكي عن الخوف الذي يسكن بواطن الإنسان وينبت تحت جلده، يخاف العصيان "خوفاً" من العواقب، يخاف التحرر "خوفاً" من التوحش، يخاف الاستقلالية "خوفاً" من التملك، يخاف الحب "خوفاً" من الفقدان.
في كل الخوف تتباعد المسافات وتتفرق الأيادي وتتشابك المعضلات التي تستهدف الأرواح وتتكاثر الشهوات ويتعاضد الأعداء في مصالح مشتركة، ويئن الوطن..

تعرضت الكاتبة للمرأة، مُصوِرةً عوالمها الذهنية والحسية في معاركها للقمة العيش، حساسيتها لأدق التفاصيل وتوقها للاهتمام والإستقرار، ومكابرتها على جرحها وعنادها لتحصل على حرية كاملة كما البلاد..
ترى الثريا في المرأة كيان قوي يصنع ثورة الخبز والعلم والبناء، لا يجوع قومها إن ملكت أمرها ولا يفقر بيتها إن حملت طموحها ولم تتخل عن حلمها، ولن تُمرغ شرف العائلة في الوحل إن تاقت لحريتها وكانت في صف الرجل في الشارع والبيت والعمل.

برغم براثن القبلية وتفشي فهم الفحولة بأنها ممارسة السلطة والقوة على المرأة وضياع الأنا، هناك دعوة للتأمل بالحياة وعيشها "بالطول والعرض" قبل الموت، وهذا ما نراه في مشاهد عديدة، أهمها المقطع الذي تتحدث فيه صبا عن استكمالها لقراءة رواية دان براون "شيفرة دافنشي" التي كانت سبب رحلتها لروما وتحديداً الفاتيكان وفهم رمز الأنثى المقدسة ص50-51. كذلك نصيحة العجوز في البحيرة لها "لن تستعيدي حياتك وأنت تتوجّسين خيفة من كل من حولك، ومن الماضي العقيم الذي مازال مغتصبوك فيه يحاصرونك حتى اليوم. لكن احذري، وتوجّسي كثيراً من لطمات سوف تأتي، لكنّها ستغدق عليك قوّة رهيبة. ثم اختفى كأنّه لم يكنْ، وتركني صنماً متجمّداً في مكانه"

في مشهد آخر، استعدادها الفطري وتسلحها بالشجاعة لرحلة مع ذاتها الأنثى لفك الألغاز..
"شبّت معركة في داخلي، عاتبني عقلي:
- أيتها الشقيّة، خرجت من براثن ذئب لتسقطي بين براثن من؟ ثُرتِ حين ثار الناس، خرجوا للشوارع يطالبون بالكرامة، فصرختِ أريد كرامتي، كسروا قضبان سجون التعذيب فتركت سجّانك في الزنزانة وحيدا. خرجت منتصرة مع أناكِ، فماذا تريدين أكثر؟
فاختار قلبي الدفاع عمّا تبقّى فيه من دقّات:
- اُدخلي معترك التجربة، لن تخسري شيئاً، فلقد كنت دوما محاربة قويّة."

تعرضت الكاتبة في روايتها للجنس ووظفته في رحلة للماوراء بحثاً عن التوازن والانسجام بين العقل والجسد، مؤكدة أن الحرية لا تتمثل بجسد يقدم الرغبة التي تفنى بتوقف القلب عن نبضه، وأنه يُوهَب بإرادة حرة وكاملة ليخلد بالفن مثلاً باعتباره من الأدبيات التي ترقى بالإنسانية، كما في رد صبا على شبق حبيب ص 58
"ثمّة أسماء نتذكّرها، وجوه نعرفها، لكن الأجساد حين نلمسها دون قانون تتحوّل إلى هباء في الذاكرة. جسدي الذي تفقّدتَه منذ قليل لا يُزعجُني إن أنا عرّيته، لكن ليس لشهوتك. لو كنتَ رسّاما أو نحّاتا، لكنتُ عشقتُ نظرتك لجسدي، هؤلاء يهبون الأجساد قداسة لا يهزمها الشبق."

تحدثت الثريا عن سلوكيات تغزو المجتمع كالبراكاجات في مراكب النقل والمواصلات، وأوراق "التاروت" التي تلجأ لها النسوة في الأحياء الفقيرة للتنبؤ والعرافة ومعرفة الخبايا العاطفية..

الثريا رمضان إعلامية وشاعرة وروائية تونسية، حاصلة على درجة الماجستير في علوم الإعلام والاتصال، لها ثلاث إصدارات: قصة "غداً يشرق النيروز" وديوان شعري "عارية أنام والخطايا".

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات