فؤاد العـوران .. رحيلٌ بطعـمِ الكــبرياء


باتَتْ مَحــابرنا مَجــروحَــةً ، فلم يبقَ فيهــا ما تمتصُــهُ الأقـــلامُ من ألــم وشجَــن ودمعَــاتِ الحُــروف ... غَــدتْ مكلومــةَ القَلبِ حينمــا تشتَمُّ ما سَجــا في عبــاءته وقميصه من بــذور الشمــوخ والكبرياء ، وهي تُنــازعُ شمسَ الفجــر البعيــد يُلملِــمُ آخــرَ أذيــالِ الحيــاة ، الحيــاة بمعناها وما تحمل وتُخبيء دفــاترها من وقَــارٍ وهيبــةٍ صمتتْ في نظــراته لتبلُــغَ ما عَجــزَ عنه حديثُ وفلسفَــة عِـلـــم التربية والقيـــادة والحكمــة الأخــلاق ؛ فكــأنَّما ما ما حفَّ طريقهُ وحَمــى موكبَ عُمــرهِ من سُمــو ورفعــة المُربِّــي والمعلم والقيــاديِّ يُعيــدُ روحهُ بين أنفــاس تلاميــذه ورفاقــه غرسَــاً طيبــاً وبلَحــاً ذو مَــذاق حريَّــة ، لتســيرُ على أكتــافِ المنــازل والدِّروبِ محلِّقــةً بابتسامات زمــنِ نضَــال الموقف وتربيــة النفس بإرتقــاء بلا وســامٍ ولا عصــا ولا إهــانة فَـــتردُّ البهــاء والعطــاء من جــديد لهـــذا الرجـــلُ الأسطــورة ليتشهَّــدَ كلمات مالك بن الرَّيب :

وخُطَّـا بأطـرافِ الأسنَّـةِ مَضجَعـي ... ورُدَّا عَلى عَينَــيَّ فَضْــلَ ردائيـــا
خُــذانيْ فجُــرَّاني ببُـرديْ إليكُمـا ... فَقدْ كانَ قَبلَ اليـومِ صَعْـباً قِيــادِيا

أيًّهــا التربوي الشَّيــخ ، وشَيــخُ التــربويين ، والأردنــيِّ الذي ما اعتركتــهُ حُروفُ العلَّــة ولا نفضتْ على وجهه لفَحــاتِ العنـــادِ تلابيبَهــا بغــير الحَــق والسَّــواء ..

أيُّهـــا العبَـــقُ المُنســابُ من بين أروقــة وأزقَّــة الجنــوب ، المُملَّــحُ الرِّيــق والمــلامح بالجَلَــد والعنفــوان والرِّضــا والصَّرامَــة ، يا واثـــقَ العطــاء والقـــامة ، يا دوحَــةَ العلــم والقَلــم والفكــر والذَّكــاء والبديهــة ..

أيُّ هذا الرجــلُ ! أيُّ فــــؤاد ! يا مُعلــمَ الفلسَفَــةِ ويا فلسَفَـةَ المُعلــم ..

لم تكُــنُ أيامُكَ مُنــذُ أن بــدأت خُطــاكَ الأولى في التربيــة والتعليم معلمــاً لعقــدين من الزمان ، ثم مديراً للتربية والتعليم بالطفيلة إلا سجــلاً حــافلاً ومدرســةً خاصة لفن التعليم والقيادة والتربية ، فقد جئت في زمـنٍ سبق الزَّمــن وكلُّ نظريات العلم الحديث ، فبــذرتَ في نفوس أجيالك الثقـة والتحــدي والتَّسلح بالعلم والوطن ، فكانوا كما أردت وكما يبتغي أن يخرجَ الثمــر من قلب نخلــة سامقـة بحجمك ، فترى الطبيبَ والمعلــمَ والجنــدي يرفرفون بأجنحتهم حول روحك الطَّــاهرة ، يغالبُهــمُ الدمعُ تـــارةً ، وتُجــزعهم ذاكــرةَ الشَّــوقِ تـــارةً ، ليربتَ على حُـزنهم ابن الرومي وهو يقـــول :

فإذا تمثَّلَ في الضَّمــيرِ رَأيتُــهُ ... وعلَيهِ أغصانُ الشَّبابِ تَمََِيــدُ

الكُلُّ هنــا في أكنــافِ بيتك الأول ، ومُقــامك النبيل يلوِّحــون إليك بالسَّــلام يا أبا بلال ، ويُجـــزلون لك وللسنين وللضَّمــير والأمــة أنْ أنجبت أمثالك ، جميعهم طلعــوا من كلِّ سهــلٍ وجبل لا ليودعوك فحسب ، بلْ ليروا كيف تكون مكرمــات الصادقين المنتمين البانين بالعزيمة عزماً ومن الشوك ورداً ، وفــودٌ ووفـــود تمنَّت لو كانت سطــراً في كتاب حياتك أو كلمــةً .. فيا لحزننــا وحزنها عليك ، حزنت لأنها لم تأتي في عصــرك ؛ فكأنما يرونك وأنت تستمع إليهم تحـــادثُ الكفَــن والنَّعشُ يجــري بلهفـة الراحـــل عن محبيــه والنَّاس ، وكأنما تناديك المَنــازلُ التي احتضنتك والقلوب التي أصغَــتْ إليك وتُناديهـــا ، وعلى أكفِّ وجبـــاه المُشـــاة يُستباح البكـــاءُ والأســى ، وصَـــداكَ يَتــردَّدُ في آذانهــم ، ويســري بين ثقــوب الدقـــائق بينك وبينَ الثرى :

فيـا عَجبًــا للقَبــر كيــفَ يضمُّـــهُ؟! ... وقد كان سَهلُ الأرضِ يَخشاهُ والوَعْــرُ

مَضيتَ أيُّهــا الفَلَـــقُ في زمـــانَ القَلــقْ معتــدَّاً بهامتك وقامتك وجبهتك النقيَّــة لا مُتهيبـــاً حرجــاً ولا مُترجَّيــاً تَهليــلاً ، فقد طنتَ تُعــد صفحتك البيضاء وسجلكَ الناصــع الذي يشهد له القاصيي والداني منذ نعومة أظفــارك ، فما كان همَّــك وجُهــدك مُنصبٌّ إلا على مصبــاح الحق ونور الهــدى للسائرين في ركب العلم والنَّمــاء ؛ ورغَــم أنني لم أحضَ بشرفِ التتلمُــذِ على يديك إلا أنَّني قرأتُكَ وأصغيتُ كثــيراً لمحبيك وصفحاتك ، فكُنت أرى الشمسَ مــراراً ، وأحـــادثُ ســيرتك الضخمــة أيُّهــا الجِـــذعُ المَتـــين الممتليء بالخــير ..

ولَــم أرَ قَبلَ جِــذعكَ قَــطُّ جِــذعاً ... تمَكَّــنَ مِـنْ عِنـــاقِ المَكـــرُماتِ

ســلامٌ على روحكَ من القلــم والكتاب ، ومن المعلمـــين والتربويين رفقاء دربك وأخوتك ..

ســلامٌ على روحكَ من الســرو والتَّــاج والشَّــواهق والفِجــاج ، ومن نوافــذ مديرية تربية الطفيلة التي تكتحلُ بطلَّتك وصورتك ..

ولتَنَــم قــــريرَ العَــين أيُّهــا ، فأنت وإن ارتَحـلتْ روحُـــك إلى بارئهــا باقٍ في الذاكــرة ، يزفُّــك إليها ذات علـــمٍ كلُّ مقعَــد وكراسَــة ومحــبرة .. وإلى جنَّـــات النعيم بإذن الله ..



تعليقات القراء

نور العوران
بارك الله فيك والله انها لكلمات اثلجت صدورنا… جزاك الله كل خير على صدق الكلام انها كلمات لمست كل ما فيه من حسن الوصف
11-06-2016 01:30 PM
عدنان السعودي
لقد أحسنت أيها الكاتب الفذ وأبدعت وأنت تتحدث عن قامة وطنية عالية كان من الممكن أن تتبوأ منصبا قياديا رفيعا في وطني لما لها من حضور وقوة ووقار....جزاك الله خيرا....ورحم الله عملاق التربية والتعليم الأستاذ الكبير فؤاد العوران....وحفظ الله أهله وذويه ومحبيه....
11-06-2016 11:24 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات