حرب الأيام الستة


كنا وضاح أحمد الجابي وأنا على شرفة مطار القاهرة الدولي "القديم" نقف لوداع زميلنا وصديقنا يوسف تايه المسافر إلى الكويت بعد انتهاء امتحانات السنة الأولى في كلية حقوق عين شمس ، كانت الساعة تقترب من التاسعة والنصف صباحاً من يوم الخامس من حزيران 1967 وفجأة بدأت زخات كثيفة من الرصاص باتجاه السماء من كل مكان حولنا وأصوات قذائف مدفعية تملأ المكان ونحن لا ندري ماذا جرى ولا نجد تفسيراً لما يجري .. قلت لحظتها لوضاح ونحن نشاهد طائرتي ميج 21 تهبطان معاً على مدرج المطار المدني يبدو أن ضيفاً عسكرياً كبيراً يزور القاهرة وأن طلقات المدفعية ما هي إلا طلقات تحية له ، لكن زخات الرصاص وطلقات المدفعية ازدادت وإذا بطائرتين مطليتين باللون الأزرق الغامق تطلقان قذائف باتجاه ما عرفنا فيما بعد أنها دفاعات جوية تحيط بالمطار المدني ، كانت الطائرتان ممهورتان بنجمة لم نميّزها خماسية أم سداسية ..

قلت لوضاح هذه من طائرات الأسطول الأمريكي الرابض بالبحر المتوسط تغيران انتقاماً لإغلاق الرئيس المصري جمال عبد الناصر مضائق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية قبل خمسة أيام ..

أجابني وضاح بأنه لا يعتقد ذلك وإن الطائرتين إسرائيليتين وأن النجمة سداسية ، فضحكت منه وقلت متهكماً وهل تجرؤ الطائرات الإسرائيلية على الوصول إلى القاهرة ، بل هي طائرات أمريكية أنطلقت من البحر الأبيض وان المسافة إلى القاهرة أقرب اليها من فلسطين المحتلة كما أنها طائرات أحدث من تلك التي عند اسرائيل !!

المهم أنزلتنا شرطة المطار ومن معنا من مودعي المسافرين حفاظا على سلامتنا إلى قاعة أـرضية كانت لكبار الزوار فاختلط المسافرون مع المودعين ..

وبدأنا ساعتها نسمع من محطات الإذاعة المصرية موسيقى حماسية وأغانٍ وطنية إلى أن صدر أول بيان عسكري بعد حوالي نصف ساعة ليعلن أن إسرائيل بدأت عدواناً برياً وجوياً على الجمهورية العربية المتحدة وأن الطيران المصري والدفاعات الجوية أسقطت حتى " الان " 23 طائرة .. كادت الفرحة لحظتها تقتلنا ، وتوردت أكفنا من التصفيق المتواصل وبُحت أصواتنا وجُرحت حناجرنا من التهليل والهتاف بحياة عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة .. وبدأ كل واحد منا يستعجل الساعات التي سيُلقى فيها الإسرائيليون إلى البحر ، ألم يعدنا بذلك بوق إذاعة صوت العرب "أحمد سعيد" ؟! المهم خرجنا من المطار وضاح ويوسف المسافر وأنا راجعين إلى شقتي لأن الرحلات الجوية أُلغيت وتوقفت في كل من مصر وسورية والأردن التي شاركت

" أو أُكرهت " على المشاركة في ما سُمي بحرب حزيران أو بما سمتها إسرائيل " حرب الأيام الستة " .. مشينا ثلاثتنا من مطار القاهرة الذي يقع إلى الشرق من ضواحي العاصمة المصرية إلى ضاحية مصر الجديدة حيث كنت أسكن مع أولاد عمي موفق وعصام رحمهما الله نحمل بالتناوب شنطة يوسف لأن وسائل المواصلات العامة أيضاً توقفت وامتلأت الشوارع بالناس السعداء الشامتين بأسرائيل التي وقعت بعدوانها بالفخ وأقدمت بإرادتها على الإنتحار !! لم نشعر بطول المسافة الى مصر الجديدة التي تبعد عن المطار حوالي 12 كم بسبب الفرح الغامر الذي عشناه وحالنا يحلل ويفلسف الموقف ويرسم فرضيات ماذا بعد إسرائيل ؟!

يا الله كيف ضللنا إعلام أحمد سعيد وكيف خدعنا استعراض عسكر سيناء ومزاعمهم آنذاك .. وكيف دلّست علينا إسرائيل بأنها مغلوبة على أمرها تعيش في بحر تسكنه حيتان تتوعدها بالدمار .

ما علينا من ذلك وبدأنا نتابع الإذاعات ومحطة التلفزيون التي أخذت لهجتها مع مرور الوقت تتراجع وحماسها يخبو حتى أُعلن قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار وكانت إسرائيل قد وصلت إلى الضفة الشرقية من قناة السويس واحتلت الجولان والضفة الغربية ؟.

كنت قد حجزت للعودة إلى عمان في 7 حزيران 1967 ولم يتبق معي سوى بضع جنيهات بعد شراء هدايا متواضعة لأهلي ، لكن ما ستر علي أن أجرة الشقة التي كنا نسكنها مدفوعة مقدماً لآخر الشهر ، وأن اسعار المواد الغذائية لم تتأثر بل ان بعضها انخفض كالخضروات والبيض الذي كان غداؤنا اليومي مع البندورة والسردين الروسي حيث مد الاتحاد السوفياتي انذاك جسرا جويا بين موسكو والقاهرة لنقل كل ما يخطر على البال مما لذ وطاب وقيل ايضا أنها كنت تنقل سلاحا لتعويض ما غنمته اسرائيل في سيناء ! ولا انسى هنا ان الجامعات المصرية اخلت سكنات الطلبة من المصريين بسبب تأجيل باقي الامتحانات عطفا وشفقة على الطلبة العرب من الأردن بضفتيه وسورية وغزة الذين تقطعت بهم السبل وأسكنت من يريد من طلبة بلاد الشام وغزة مكانهم مجاناً إقامة ومعيشة .
.
. بعد العشرين من شهر حزيران بدأت الأوضاع في المنطقة تستقر وعادت حركة الطيران فعدت إلى الأردن من القاهرة جنوباً باتجاه جدة ومنها إلى عمان برحلة استمرت ثلاث ساعات بدلاً من خمسين دقيقة كانت تقطعها الطائرة عبر سيناء وكان ثمن التذكرة أيامها بين عمان والقاهرة ذهاباً وإياباً 15 ديناراً .

خلاصة القول .. دخلت القاهرة في 3/10/1966 فرحاً وغادرتها في 27/6/1967 حزيناً محبطاً ومصدّقاً بأن حرب حزيران كانت نكسة وليست هزيمة وها هي النكسة تكمل عامها ال 49 .. أليست هذه من أشرُ هزائم الأمة ؟.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات