حكاية مدمن سابق


قال محدثي :- تصادف اليوم الذكرى السنوية الثالثة على مرور الحدث الكبير الذي باغتني فيه القدر وحول حياتي في لحظات من النقيض الى النقيض .

لا. لن أنسى ذلك اليوم الذي صادفت فيه الشخص الذي استوقفني وأنا أسير في السوق على عجلة من أمري وأغذ الخطى عائدا إلي البيت لأمر خطير. تمكن الرجل مني خلال اقل من ساعة وأخذني على حين غفلة وقلب حياتي رأسا على عقب . لم أكن قد التقيت به منذ سنوات لا اعرف عددها على وجه الدقة لكنها سنوات كثيرة على حال .

أقول (شخص). لأني عجزت عن تحديد ماهية العلاقة بيننا قبل اللقاء ،او وصف حقيقتها بأي وصف مألوف ،لكن استطيع القول انه كان شبه صديق ،وللدقة، كانت تربطنا شعرة واحدة من الصداقة ،غير أني سمعت بعد هذه الحادثة انه خلال سنوات سفره للعمل في الخارج انحرف وفعل الفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن وكل أشكال الخلاعة والمجون ، بل واكبر منها بكثير. سمعت انه مارس هناك - والعياذ بالله - ما لا يقال .

كنت في الواقع قد وضعت طعامي ليطهو على النار، وذهبت لأخطف رغيف الخبز الساخن الذي غادرت لشرائه من المخبز المجاور، وكانت هذه عملية يومية آمنه تجري برتابة وانتظام تام .وبينما انأ ممسك بالرغيف وجدت نفسي وجها لوجه أمام شبه الصديق ،وبادرني مداعبا بسيل من الشتائم الساذجة جريا على عادته المدرسية.

قلت له قبل مصافحتي :- أين أنت يا رجل ظننتك مت ؟ . وقبل أن يجيب ضمني أليه بكثير من الشوق، وجرت مصافحة وعناق حميم ، واقتادني من فوره ليستضيفني ،وتوسلت أليه بلا جدوى ان يتركني لخوفي من احتراق البيت ، وما هي إلا دقائق سيرا على الأقدام حتى كان يقرع الجرس وتفتح زوجته الباب.
قاطعت محدثي وقلت :- وماذا عن طعامك والنار؟ لم يرد وتابع يقول:

لا اذكره إلا مثلي تماما فقيرا مسكينا ضعيف الحال . لكنه يبدو الآن غنيا وعلى درجة عالية من الثراء ، أكثر من سيارة حديثة وملابس أنيقة وحديقة واسعة جميلة التنسيق وأثاث فاخر يملأ أركان البيت الكبير .قلت في نفسي :- تبا . كيف امتلكت يا غبي هذا المال وهذه الجميلة . ونحن معا في المدرسة كان نصف وزنك أوساخ، وكنت تصل الى المدرسة البعيدة ماشيا او على ظهر حمار ، وتابعت احدث نفسي. كنت الأول في الدراسة والتحصيل وكان الأخير . كان وسيما كما هو أمامي الآن ومدعاة للتندر والسخرية والاستهزاء وكان غليظا سيء الطباع وعصبي المزاج وفوق هذا كله كان عربيدا سليط اللسان.

سألني:- أخبارك يا احمد ؟ وماذا تفعل اليوم ؟.

قلت :- أقوم بالتفتيش الدوري للتعرف على أماكن اختباء القوارض والحشرات وحصر عدد الكلاب الضالة ،وأقوم يا عزيزي بالإبلاغ عن أي ثغور أو مداخل في المنطقة لمنع دخول كلاب جديدة من الخارج ،وعمل طعوم جاذبة " لحوم – دواجن " محمل عليها مبيد لجذب الكلاب الضارة وأكل هذه الطعوم وقتلها، ثم أني اجمع الكلاب النافقة في أشولة وعمل دفن صحي خارج حدود المنطقة. هذه هي وظيفتي.

ابتسم وهز رأسه -ولعله كان مستهزأ - وقال:- ثغور وكلاب !؟ أي عمل هذا ! تركتك ذكيا ومتفوقا في المدرسة وظننك طبيبا او رجل أعمال. واقتربت الزوجة مني وقدمت لي سيجارة ورفضتها بلا تردد، ودنت مني أكثر وأحسست أنها تنوي اقتحامي وتوترت على الفور .

وهمست في أذني همسا غنوجا :- ألا تريد حاجة حلوة؟

قلت:- لا . أكلت الكثير من الهريسة اليوم.

دفعت بيدها جبيني وقالت :- خيبه .هريسة أيش يا حبيب أمك!.

ارتعشت وهزني تيار عنيف . وغادرت ثم عادت تحمل الشاي. قلت في نفسي مرة أخرى إنني أمر بحالة صعبة للغاية يجب السيطرة عليها.

لكني استطعت استئناف حديثي وقد بدأ يتصبب مني العرق :- هكذا فعل بي الفقر يا سعيد . وظيفة بسيطة براتب هزيل . لقد حال الفقر بيني وبين إتمام دراستي الجامعية .

في الدقائق القليلة التالية تبادلنا عشرات الأسئلة والإجابات القصيرة تركزت حول أحوالنا الخاصة .وكانت اغلب أسئلتي وإجاباتي مرتبكة بسبب هذه الشيطانة التي ما فتئت تلامسني وقد ملأ انفي عبق عطرها وأزاغت بصري مفاتنها.
وفي النهاية قال:- أبله . وأكد على ذلك مكررا :- انك لا تزال يا صديقي أبله .
تقبلتها على أنها دعابة قالها على سبيل الألفة والتوود ،أو في سياق غبائه المعتاد وفطرته السيئة.
قال :- وبيتكم ؟.

قلت:- آلت ملكيته إليّ وقمت بتأجيره وسكنت في شقة صغيرة لتوفير فارق الأجر لتحسين أوضاعي المالية.
قال:- عظيم . ونسائياتك يا (....)؟

قلت :- لا نسائيات في حياتي الآن، لكن سأبحث عن زوجة ما إن انتهي من تجميع نفقات الزواج .
في الأثناء شعرت بانقباض وضيق وكأنني اصحوا من كابوس وخالجني حينها كثير من الحياء ثم بدأ يسري في نفسي وفي أوصالي مزيج من عواصف متناقضة ،وتنازعتني حالات من الفرح والمرح والخوف والرهبة والقلق في آن واحد ، زاد تصبب عرقي ،وارتفعت حرارتي ثم أصابني برود مفاجئ ، وقشعريرة هزت أنحاء بدني بعنف .
عند ذاك اتضحت لي بعض معالم الحقيقة... هنا قاطعت محدثي وقلت:- وماذا عن طعامك والنار؟ لم يرد، وتابع حكايته قائلا:-

وانكشف أمامي جانب من السر ،وهممت بالمغادرة لولا انه ساقني عبر ممر وقام بإيلاجي في غرفة صغيرة فارهة قال إنها غرفة البخور، ثم رايته يمسك بقطعة من لفائف القصدير ويشعل تحتها النار من ولاعته باليد الأخرى وهو يقول بشيء من الدعابة والمزاح :- أتعرف البخور ؟ هذا هو البخور.وباغتني بوضعها على فوهة انفي قائلا:- هيا يا احمد استنشق هذا بعمق .

وقبل ان أتمكن من القبول او الرفض شعرت بنشوة ولذة غامرة واسترخاء، ودخلت في عالم حالم آخر جميل وأحاسيس ممتعة غريبة وسعادة عظيمة وانفصلت عن الوجود .

من هنا بدأت رحلة العذاب ، انه الهيروين .ففي اليوم التالي قلت في نفسي لماذا لا أكرر التجربة الممتعة ؟. قدم لي سيجارة بالمجان ،وكذلك فعل في اليوم الذي تلاه . في المرة الرابعة أدمنت، وبدأ بطلب الثمن، وأعطيته ،وتكررت التجربة مرة بعد مرة ، وكنت واثقًا تماما إنني سأتوقف عن ذلك عندما اقرر. لكنني وقعت بشباك قوية جدًا لم أستطع الخلاص منها أبدًا، لقد أسرني الهيروين، وأنا في ذلك الوقت لا أستطيع الابتعاد عنه إطلاقًا. أنه كان أهم شيء في حياتي وأتعاطاه بالحقن والشم والتدخين .

وهنا قاطعت محدثي وقلت :- وماذا عن الهريسة . اقصد. وماذا عن طعامك والنار ؟ لم يرد .واسترسل في سرد حكايته.

وعانيت من ضغط نفسى للحصول على الراحة النفسية الزائفة ،وفقدت وظيفتي، وبعت منزلي لتوفير المال وتلاشت قدرتي على التركيز وعانيت فقدان الذاكرة . واتجهت الى رفقاء السوء، ومع مرور الوقت أصبحت سريع الإثارة والغضب والعصبية الزائدة دون سبب .ثم تجنبت العائلة وانعزلت عن المجتمع .وكانت تنتابني الأعراض الانسحابية المؤلمة إذا لم اتعاطى الهيروين فى موعده وآلام شديدة بالعضلات والعظام والمغص ، مما كان يجبرني على استمرارية التعاطي وفقدان الشعور وأصبت باكتئاب وندم، وحاولت أكثر من مرة لانتحار .

ثم أصبحت حالتي أكثر سوءا، وأصابني الخمول وتلعثم اللسان واحتقان الملتحمة وزيادة ضربات القلب والتي تحولت إلى بطء في ضربات القلب وانخفاض ضغط الدم. وأصبحت بحاجة لزيادة الجرعة سعياً وراء الشعور بالنشوة، وكلما استمريت في التعاطي استمرت حاجتي إلى زيادة الجرعة ،ولا استطيع التوقف عن التعاطي ساعات قليلة.

في نهاية المطاف أشرفت على الموت، كان يتصبب مني عرق دائم، وإفرازات غزيرة من الأنف والعينين مع ارتفاع خطر في الضغط وارتفاع الحرارة أتساع حدقة العين والغثيان ،وكنت أجثوا على قدمي وازحف على الأرض طلباً لجرعة تنقذني من العذاب، وتنازلت عن كل شيء في سبيل التخلص من هذا الألم الجسيم الذي لم يكن يهدأ إلا بتعاطي المزيد من الهيروين.

كان عابسا فقلت :- كفى يا احمد هات الخلاصة لو سمحت. قال :- تعالجت من الإدمان وتعافيت كما ترى بحمد الله . احترق طعامي ومحتويات شقتي ،لم أذق هريسة زوجة سعيد وماتت بسبب الإدمان ، وحكم عليه بالسجن المؤيد لاتجاره بالمخدرات ومقاومة رجال مكافحة المخدرات والشروع بقتلهم. ..سألته:- وماذا بخصوص الرغيف ؟.ضم شفتيه مرسلا لي قبلة هوائية ذات صوت، ثم قال :- شكلوا دمك خفيف كثير.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات