مَعْرَكَةُ الكَرَا مَةِ : دُرُوسٌ وَعِبَر


جراسا -


بقلم : الأستاذ الدكتور حسن البكور 

تتغنّى الأمم والشعوب بما تقدّمت من إنجازات , وتطوير في مسيرتها الحضارية ، وبما حققّت من نهضة ورُقي في كافة الصُّعد ، وتغدو الإنجازات إحدى المفاصل المهمة, والمحطّات الرئيسة التي تُفاخر بها الدول الأخرى ، وتتباهى بها ولربما تستذكر كل عام مشروعها الرّيادي هذا ، وتحتفل به ؛ لأنه النافذة التي تطلّ من خلاله على العالم بزهو وكبرياء ، وإرادة قوية ، فيُحسب لها الحساب, لما لها من حضور بارز في الإسهام برسم ملامح خريطة المستقبل .

ونحن في أردن الحشد والرِّباط, نمتلك من مقومات الإنجاز ما يحقِّق لنا الإنسجام مع الذات ، والتواصل مع الآخرين على أسس من الاحترام المتبادل ، ولن أخوض في حجم المنجزات جميعها ، بل سأستعرض مناسبة مضيئة في حياتنا نحن الأردنيين التي افتخرنا بها وما زلنا , وسنظل نفاخـر بها في كل زمان ومكان ، تلك هي معركة الكرامة ، المعركة التي مضى عليها ثمانية وأربعون عاما , أعادت النور والضياء لمسيرتنا , بعدما عشنا ظلمات دامسة من آثار الهزائم التي عصفت بنا نحن العرب ,اكتوينا فيها بمرارات العذاب, التي تمثلت بعنجهية الأعداء الصهاينة الذين اغتصبوا الأرض العربية , وغيّروا معالمها ، ودنّسوا مقدّساتها ، وفطموا الأطفال الصّغار الأبرياء بقنابلهم وطائراتهم قبل حين الفطام ، ونهبوا خيرات الأرض المقدسة ، وأحرقوا بحقدهم الدفين الأخضر واليابس .

إنّ معركة الكرامة جاءت بعدما تجبَّر العدو الصهيوني في الأرض وتغطرس ، وشعر أن جيشه عصيٌّ على الهزيمة ، فالغلبة على الدوام شعاره ، ومن هنا دفعه هذا الغرور إلى اجتياز الحدود الأردنية, ظناً منه أن هذه نزهة لن تطول ، وسيبتلع الكثير من الأرض الأردنية في الأغوار وبعض المواقع الإستراتيجية ، وبكل صلف وغرور , يندفع بدباباته وطائراته ومدفعيته ؛ ليخترق الحدود ، وتبدأ المعركة بكل صنوف الأسلحة ، ويلتحم الجيشان في وادي الأردن وجهاً لوجه وبالسلاح الأبيض ، وعلى الرّغم من تفوّق العدو في العدد والعُدة ,إلا أنه يخسر المعركة, ويتكبّد خسائر فادحة في المعدات والأفراد بين جريح وقتيل ، ويولي الدُّبر ,وينسحب من المعركة ,ويجرّ أذيال الخيبة والفشل, وقد أُثخن بالجراحات والانكسارات .

ويخلّف وراءه الكثير من الدبابات المعطوبة كما خلّف أسطورته التي لا تقهر, وقد فاخر بها القاصي والداني ، خلّفها دُمية يداعبها الصّغار ، كما تركها تتدحرج كالكرة في الميدان ،. نعم إن معركة الكرامة أعادت للعرب وللمسلمين كرامتهم التي سلبها العدو طيلة سنوات خلت ، تلك الكرامة التي حفرت في ذاكرة العرب أن الباطل مهما تقدّم وانتصر في بعض الوقائع إلا أنه سيُهزم ، وسيظل الحق يرفرف في سماء الكون بأعلامه .

وتقدّم معركة الكرامة دروساً وعبراً كثيرة منها : أن الجندي في ساحة الوغى, يستمد قوّته ,وإرادته, ومعنوياته, بعد الله سبحانه وتعالى من القيادة الحكيمة التي تصول في الميدان وتجول ، وتنتقل من دبابة إلى أُخرى ، ومن موقع إلى آخر ، وتتفقد أحوال الجند ,وتشعرهم أن الهمَّ واحد ,والهدف مشترك ، والكل سواسية في المعركة, عندئذ يستشعر الجندي بإذابة الفوارق ، فيندفع بهمة عالية, وحماس منقطع النظير للاستبسال في القتال, ولقد ضرب القائد الباني جلالة المغفور له بإذن الله الحسين بن طلال أروع الأمثلة في القيادة الرشيدة ، فكان في قلب المعركة ,يشارك جنوده البواسل, فيشدّ أزرهم ,ويبعث في نفوسهم العزم والمضاء من خلال حكمه العميقة ومنها : المنيّة ولا الدنيّة، وأنتم أيها الجنود البواسل حماة الوطن وسياجه المنيع ، نعم شارك المغفور له في المعركة, وما زالت صوره ماثلة في الذاكرة ، ومهما مرّت الأعوام فلن تمَّحي ، أو يلفّها النسيان ، وستظل محفورة في الذاكرة ، كيف لا وقد ارتبطت بإحياء معاني الكرامة, والمجد ,والإباء, والشموخ, والفخار في نفوس الأردنيين خاصة, والعرب على وجه العموم.

وتمدُّنا معركة الكرامة بدرس آخر ألا وهو ، أن النصر من عند الله ، بعد أخذ الأسباب ، فقد آمن الجندي الأردني بأن مواجهة الظالم والمعتدي والمحتل يتطلّب الإعداد والتهيئة الكافية لقوله تعالى : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .... " وليست القوة هي الكفيلة بتحقيق النصر ، بل يجب أن تقترن بالتوكل على الله ,والالتزام بمنهجه وكتابه العزيز قولاً وعملاً لقوله تعالى " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " .

وأما الدرس الآخر فهو الإيمان الجازم, والاعتقاد الراسخ بالقضية التي تناضل من أجلها ، لأن وضوح الهدف في فكر مَنْ يسعى إلى تحقيقه, يشكّل بعداً جوهرياً في بث روح الهمة في النفس ، وقد آمن الجندي الأردني ,واعتقد اعتقاداً يقينياً أن الغاية التي يناضل من أجلها, هي غاية شريفة, تتمثّل في الظلم الذي لحق بوطنه وأهله على يد العدو الصهيوني والكيان الغاصب ، فاندفع بأمانة وإخلاص وثقة منقطعة النظير إلى ميدان المعركة, وهو مسلح بهذه القناعة فكان ذلك من أسباب انتصاره .
وثمة درس آخر يتمثل في الالتحام والتوحُّد العضوي بين القائد والجندي والشعب حول غاية مشتركة وهدف سامٍ نبيل, نعم لقد كانت مُدخلات أسباب النصر أن أركان المعادلة متآلفة ومنسجمة ومتوافقة ، بل ووصلت إلى حدّ التماهي الذي عزّ نظيره في العصر الحديث ، ولمّا كانت هذه العناصر الأساسية بهذه الصّورة كان النصر حليفها ,ولا أستبعد في هذا المقام أن هذا التماسك, والتوكّل على الله, كان سبباً في مددٍ من الله عزّ وجلّ للجند في أرض المعركة بجنود من عنده شاركوا في الجهاد المقدّس هذا .
ومن الدروس المهمة أن التكافؤ في العدد والعُدّة بين الجيوش أمرٌ ضروري ,وسبب في التفوق إذا كانت المعركة بين فريقين مثيلين في الهدف والمصلحة ، وأما إذا كان أحدهما هو المعتدي والغاصب ، والآخر هو المظلوم والمُعتدَى عليه, فإن شرط التكافؤ ليس من يحسم المعركة ، بل إن حسابات أُخرى هي التي ترجّح التفوّق ، لأن إدارة المعركة في هذه الحالة ,تعود إلى الخالق الجبار العزيز العادل ، وهذا ما يفسّر الانتصار في معركة الكرامة لصالح الأردن والعرب والمسلمين , ويؤكد المراقب أن ميزان القوى كان يميل لصالح الكيان الصهيوني, ومع ذلك كانت النتيجة لصاحب الحق " الجندي الأردني " وهذا دليل واضح على أن النتيجة ليست بيد طرف من طرفي المعركة ,بل بيد مَنْ يُدير المعركة ، فيتدخل في اللحظة التي يشاء فيها التحرّك, ويُحدث خللاً في صفوف الطرف المعتدي ، ويولّد لديه الشعور بالخيبة والفشل والهزيمة. .

وأخيراً فإن معركة الكرامة, تعدّ محطّة مفصلية في حياة الأردنيين على وجه الخصوص, والعرب والمسلمين على وجه العموم ، لأنها أول معركة ينتصر فيها الحق على الباطل في عصرنا الحديث, ومع الكيان الصهيوني على وجه التحديد ، وستظل هذه المعركة محفورة في قلوبنا, نستذكر من خلالها أسمى معاني الكرامة والشهامة والرّجولة، وصورة الراحل العظيم ,طيب الله ثراه جلالة الملك الحسين بن طلال ، وصورة البواسل الشهداء منهم والأحياء ,ممن ما زال على قيد الحياة الذين لمّا نراهم, نقف لهم وقفة إ‘جلال واحترام وتقدير ووفاء وشكر وعرفان ، لأنهم الأبطال الذين رسموا لنا وللأجيال التالية معالم الحياة الحرّة الكريمة الشريفة .

فيا أيها الشهداء الأبرار , يا مَنْ روّيتم ثرى الأردن الطهور بدمائكم الشريفة دفاعاً عن عزّتنا وكرامتنا وشرفنا ، لكم من أبنائكم -كلما بزغ فجر جديد- دُعاء برئ من القلوب المتعطشة لرؤية صوركم الزاهية على صفحات التاريخ, دُعاء بالغفران أن يتقبلكم الباري بقبول حسن ,وأن يحشركم مع النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً, وأنتم أبطال الكرامة يا من ما زلتم على قيد الحياة ,نقول لكم : بارك الله فيكم ,وأطال في أعماركم ، فو الله كلما تذكرناكم, وشاهدناكم على شاشات التلفاز نزدد شموخاً وكبرياء وكرامة ببطولاتكم التي سطّرتم بها صفحات التاريخ بأحرف من نور, فمن أعماقنا ,نقول لكم شكراً أيها النشامى ، نشامى الحسين بن طلال ، فأنتم مَنْ عطّرتم تاريخنا بعبق أنفاسكم الطاهرة وبأريج إرادتكم التي لا تنحني إلا لله ، فبارك الله فيكم وجعل الجنة مأواكم ، وأما بطل المعركة فهو الحسين الذي ما زال خالداً في قلوبنا ,وساكناً على عرش صدورنا, وممتطياً أعنّة هاماتنا ، فمأواك الجنة يا أبا عبد الله, يا من تركت فينا شبلك الهاشمي الفارس , فارس الكلمة, والإرادة, والتخطيط ، وفارس الحنان والودّ , والرأفة ,والكرم, والشهامة ، وفارس الموافق المشرّفة في كل الميادين ، فإليك أبا الحسين, نبارك لكم هذا النصر العظيم الذي ما زال يدوي في كل الأركان والميادين ، ونجدِّد لعرشكم البيعة والعهد والوفاء والولاء, أن نبقى على الدرب الأمناء المخلصين, ولحمى الأردن بالدم والروح والمهج نفتديه .

" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا "



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات