أردنيات بالكازيات


كتب : جمال الدويري - هناك الكثير من أفكار الكتابة, وضرورات كشف المستور, في هذا الوطن العزيز المأزوم المظلوم, ولكنني أجد نفسي هذه المرة مضطرا لمتابعة موضوع آخر, بعيدا عن أزمات الأقليم وحروبه التي تنهك فكر الأردني وتفترس أعصابه وحدود ترقبه وخوفه, والفساد, هذا السرطان الذي يفتك بالوطن ومقدراته ومسكوكاته التاريخية, وأتطرق للنوايا المتجهة لتشغيل الأردنيات في محطات الوقود, كعاملات تعبئة لخزانات سياراتنا بأنواع الأوكتان المختلفة.

وكأن كسر ثقافة العيب التي يبررون بها هذا التوجه, لا يكون الا بكسر حدود العيب وشق ثوبه وإسقاط ورقة التوت عن عورته, وكأن مشاكل الفقر والبطالة سوف تنتهي عندما تقبض الأردنيات على خرطوم البنزين والديزل في كازياتهم, كمادة للتندر ومضغة للالسن والأعين والفكر الوضيع من بعض مرتادي هذه المواقع.

لا أبالغ أن قلت, أن هذه الفتيات والنسوة, سوف يتعرضن للكثير من عمليات التحرش, بل والاغتصاب اللفظي والفكري والوجداني وخدش الحياء, الى حدود سوف تنتفي معها حتى المقومات الدنيا للآدمية, ناهيك عن حدود الكرامة والشرف وصون الذات والابتعاد عن الشبهات.

العمل مقدس, وبحد ذاته, لا عيب به ولا حرج, طالما راعت الأطراف حدود الله والاحترام المتبادل والضمير الحي, ولا تفريق في ذلك بين الذكر والأنثى, لأن منع الأنثى من العمل المحترم, سوف يعطل نصف المجتمعات عن العطاء والبناء والإنجاز, في حين أن التمسك بمأثور القول, بأن لكل مقام مقال, لا يقل ضرورة عن واقع التنمية الشاملة وإشراك الجميع بها.

مفاهيم مجتمعية ومواريث شعبية محلية ومنظومة أخلاق, هي محط فخرنا واعتزازنا, تتعرض منذ سنوات, للتفتيت والاغتيال والهدم, بمعاول يدعي اصحابها الحرص على المجتمع واقتصاده وتنميته, فتارة, يهاجمون العشيرة ويحاولون طمس اسمها حتى من أوراقنا الثبوتية, وتارة يستكثرون علينا بعض حقوقنا المكتسبة بالدم والعرق والتاريخ, ويطالبون بإلغاء حقوق ابناء العسكريين بالتعلم والطبابة والسكن, وتارة ثالثة, تراهم يحملون العرف العشائري كل ما يعاني منه المجتمع من سلبيات وعيوب, وغيرها الكثير, وحتى يصلون الى محاولة تدمير آخر حصن من حصون الفضيلة والاطاحة بلبنة الأساس العائلية في مجتمعنا, الا وهي مصطلح العيب ومعناه, الذي يحاولون اغتياله بمبرر المحافظة عليه وكسر حده بدافع توفير فرص العمل للأردنيات, وكأن العمل انتهى ونضبت نبوعه, الا على حواف نبوع المشتقات النفطية وخدمة زبائن الكازيات.

ولو أن جماعة التسويق وناس القانون, حاولوا السعي لحماية المرأة من تجاوزات أجيال كاملة على أبواب المدارس وفي الجامعات وفي المولات والحدائق العامة وأماكن العمل وفي الشوارع والحارات ووسائل النقل العام, ووفروا لهن أجواء ذات جودة وتسامح واحترام, لقلنا أن الساحة الإجتماعية ومنظومتها قد باتت مهيأة لانتفاء الفروق والحواجز والتحفظات بين الذكر والأنثى, حتى تنطلق الاردنية الى العمل الى جانب أخيها, دون الخوف من عين هذا ولسان ذاك ونوايا ثالث.

أما وفي ظل مفاهيمنا الحالية وسهولة اختراق حاجز الحياء والعيب وكرامة شريكاتنا في المجتمع, ودون الغطاء القانوني الضروري لشكم المتجاوزين, فإنني لا أرى في التوجه لتشغيل الأردنيات في محطات الوقود, الا محاولة رخيصة للتسويق والدعاية والإعلان لمنتجات, لا تحتاج اصلا لفلسفة تسويق او اجتهاد متحذلق وجد ظالته في جسد المرأة وشكلها, دون اعتبار لخصوصيات مجتمعية ودينية وأخلاقية, ما زال لها قياس في موازيننا واعتباراتنا الاردنية.

كما وأرى, ان فُتح هذا الباب فعلا, فإنه سوف يشرع بوابات واسعة للعطاوي والجاهات والثار والانتقام وقطع الألسن, ولإشغال القضاء بدعاوي الشرف ورد الاعتبار والقدح والذم وخدش الحياء.
ولمن أراد مقارنتنا, عبطا, بالمجتمع الأوروبي, شرقه وغربه, ويسوق مجتمعنا سريعا الى أنماط غير معتادة من الحياة, فعليه أن يتنبه الى فروق الثقافات والنشأة ومناهج التعليم وضوابط القانون بين هذه وتلك,كما وانني شخصيا, لم أر في اروروبا فتيات تعمل في محطات الوقود, اللهم الا على صناديق التحصيل, ومن خلف حجاب.

ولا بد في الختام من التأكيد, في حال الأحوال, على أننا لن نشاهد المنعّمات, فتيات ونسوة المجتمع المخملي, خلف خرطوم التعبئة في الكازيات, بل حصرا, اولئك المسحوقات من بنات الحاجة والفقر والمضطرات لاهتباد فرصة دفع الجوع عن ايتام او صغار او مداواة مريض او صاحب اعاقة.

هناك الف عمل وعمل كريم, يليق بالجنس الناعم في زوايا الوطن, فلا تبتزوا فقرنا وتغتالوا كرامتنا بعد ان حشرتمونا في زوايا الضنك والعوز, وأطلقتم علينا غول رأس المال القذر.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات