السلسلة الثانية من رواية رغبة الإنتقام – الجزء الثاني


كان الطريق الذي يسلكه ممدوح مكتظ بالسيارات، فكانت حركة السير في ذروتها بسبب مغاردة الموظفين لأعمالهم و باصات المدارس كما هو المعهود بهذا الوقت من النهار فكانوا في أوقات الظهيرة و الإزدحام ممكن جدا، كان السير متوقف منذ فترة طويلة، فابتدأ بعض السائقين من حوله بإطلاق الأبواق في محاولة لحث السيارات أمامهم على الحركة، بعد دقيقة من الزمن زادت أبواق السيارات و أحدثت ضجة كبيرة بالأجواء و لكن ليبقى السير كما هو...من دون حراك، فتح باب سيارته و خرج منها و نظر أمامه، كان سَيْل السيارات على مرمى عينيه أمامه يملئ الطريق...لاحظ وجود ضجة و حركة غير طبيعية على مسافة منه، كانت سيارته في المسرب الأيمن فكان يسير بسرعة معتدلة اساسا قبل أن يدخل في كوبري قصر النيل، لم يكن من النوع الذي يحب السرعة فكان يؤمن أن السرعة الزائدة أكبر مسبب للحوادث على الإطلاق، عاد الى سيارته و ركنها بجانب رصيف الشارع و أشعل الأضواء الرباعية، خرج منها و سار نحو المشكلة، و مع اقترابه منها تبين أن بالأمر عراك بالأيدي، و فجأة بعد أن تخطى خمسة سيارات شعر بأحدهم يتبعه، لم يكترث الى هذا الشعور في بادئ الأمر فالشارع مليئ بالسيارات و الناس التي قد تراقبه و هو يسير بين الإزدحام، تابع بثبات طريقه دون الإكتراث لهذا الشعور و كاد أن يقترب من اربعة رجال كانوا يتعاركون حول حادث اصطدام مركبة بآخرى، و كان من الواضح أن أحد السيارات المتضررة سيارة آجره...و لكن بعد دقيقة من الوقت راوده نفس الشعور،

كان يقف في منتصف كبري قصر النيل و كان قرص الشمس البهي ينير جلد السماء الصافية لدرجة أن النظر الى السماء كان أمرا مستحيل...و كان الإزدحام يوتر أعصاب الكُلْ فانطلقت مرة آخرى أصوات ابواق السيارات التي ترافقت مع صياح بعض السائقين و تذمرهم من أجواء السير الذي لا يتقدم البتة...نظر فجأة الى الوراء فلاحظ رجل خلفه على مسافة عشرين مترا يترقبه، ارتبك الرجل من حركة ممدوح المفاجئة فاستدار على الفور و فتح صحيفة كانت بيده و ابتدأ بمطالعتها، كان الرجل ابيض البشرة طويل القامة و عريض المنكبين و ذو شعر أسود كثيف و كان يرتدي بنطال أسود و قميص ابيض و سترة حمراء خفيفة فوقها، نظر اليه بتمعن لدقيقة زمنية فشعر أن شكله مألوف لديه، و لكن محاولة الصحيفة لم تكن مقنعة لممدوح إطلاقا فالذي يريد أن يطالع صحيفة لا يطالعها على رصيف كبري و بين إزدحام مروري، قرر ممدوح على الفور الإقتراب من هذه الشخصية فكان أمرها مريب جدا، سار للخلف نحوه بضعة خطوات الى أن فرقت بينهم مسافة عشرة أمتار فقط، و فجأة قذف الرجل الصحيفة من يده في الهواء و ابتدأ يجري بسرعة بين الإزدحام، سحب ممدوح مسدس كان يخفيه في داخل سترته على الفور و أطلق بضعة رصاصات تحذيرية في الهواء و صرخ
"شرطة توقف!"

صاح بعض الناس في السيارات من أصوات العيارات النارية و أحنى بعضهم رأسه داخل سيارته من الخوف،

لم يكترث الرجل للإنذار فانطلق ممدوح وراءه بين السيارات بسرعة كبيرة، ففجأة غلت الدماء بعروقه لمعرفة من كان يتبعه بهذه الجرأة و بوضح النهار، كان الرجل يجري بسرعة بالغة ليهرب من ممدوح و كان يجري بين السيارات فكان يتمتع بخفة كبيرة و لكن لياقة ممدوح ساعدته ايضا بالجري وراءه، فبالنهاية اقترف هذا الرجل حركة مثيرة للشبهة مما اقتضى ممدوح معاملته كالمجرمين و اللحاق به ليقبض عليه فكان أساسا ذاهب لجمع معلومات عن مطلوبة للعدالة في بناية سكنية ضمن قضيه مريبة جدا...فكيف سيكون الأمر إذا أخفق بالقبض على شخص كان يتعقبه اثناء القيام بعمله كرجل للمخابرات؟ فلذلك الإخفاق بهذه المغامرة التي ابتدأت للتو كان مستحيل، أبرع الرجل بالإلتفاف حول السيارات و الجري بسرعة و بخفية عالية مما دفع ممدوح اثناء اللحاق به لإطلاق رصاصة اضافية في الهواء، و لكن أكمل الرجل الجري وسط صراخ الذين في السيارت من صوت العيارات النارية، توقف ممدوح فجأة و صوب السلاح نحو الرجل، أطلق رصاصة اصابته بكتفه، توقف عن الجري و صرخ بشدة من الألم، أمسك كتفه و هرول بضعف نحو رصيف الكبري، و قبل أن يصل الى صور الكبري المطل على النيل فتح باب سيارة من السيارات العالقة بالإزدجام و سحب مسدس من سترته ثم سحب إمرأة شابة من يدها من داخل سيارة جيب حديثة، صاحت الإمرأة بشدة من الخوف و صاحت إمرأة كانت ترافقها من داخل السيارة فقام بتهديدها لتسكت، سحب رهينته بكل إصرار الى صور الكبري، خرجت مرافقة الرهينة من السيارة و لكن صَرَخَ الرجل و انتهرها قائلا "ابتعدي عني و إلا قتلتها!"

كانت الرهينة ترتدي ثوب نسائي أنيق جدا لونه ازرق سماوي، و كانت ذات شعر أشقر و جمال خلاب مما اخبر ممدوح أنها ابنة عائلة ثرية، و كانت مرافقتها ترتدي بنطال خمري و قميص رصاصي أنيق و كانت اكبر منها بالسن، اقترب منهم ممدوح و صرخ بوجهه...
"اترك المرأة فلا ذنب لها! من الواضح أن مشكلتك معي!"

صرخت الرهينة بذعر شديد "اتركني! اقبل يدك أن لا تأذيني!"
قالت المرافقة و علامات الهلع و الخوف تملئ وجهها "سأعطيك المال الذي تطلبه، أنا قادرة أن ادفع لك ما تريد و لكن أترك ابنتي...ارجوك!"

أجاب الرجل ممدوح بِتَوَعُدْ "إذا لم تتركني ارحل سأقتل هذه الفتاة! ابتعد عني!"

شعر ممدوح أن هذا الرجل لا يمزح إطلاقا، فكان غاضب جدا و علامات التوتر تملئ وجهه، فأجابه بحذر "سأضمن لك الوسيلة التي تريد لكي تهرب بها! و لكن أترك هذه الفتاة...لا ذنب لها! أنا الشخص الذي تريد و أنا كفيل أن أؤمن لك ما تشاء...أهدأ و اترك النساء تمضي في سبيلها و أنت تعلم جيدا من أكون و كم أنا قادر أنا ألبي لك طلباتك!"

أخرجت مرافقة الرهينة من حقيبتها هاتف خلوي و قالت للرجل "أنا ابنة رجل أعمال ثري جدا! و أستطيع تأمينك بالمبلغ الذي تأمر بمكالمة واحدة للبنك...!" ركعت أمام الرجل و ترجت باكية "اقبل يدك أن لا تؤذي ابنتي...هي ابنتي الوحيدة..."

أجاب الرجل بنبرة غاضبة و علامات التَوَعُدْ تملئ وجهه "يا ممدوح اسمعني جيدا...أنا سأهرب و أخذ معي هذه الرهينة كضمان كي لا تؤذيني...نحن لا نمزح بعملنا...و إذا لحقت بي قتلها سهل جدا عندي مثل افطار الصباح...فهذه كلبة مصرية بنهاية المطاف لا قيمة لها عندنا! سأبتعد رويدا رويدا صوب الزمالك في آخر الكبري و احذرك...لا تلحق بي..."                                        

صرخت المرافقة "لا تأخذ ابنتي، ما شأنها بالخصام بينك و بين هذا الرجل..."                        

ابتدأ الناس بالتجمهر على مقربة منهم مما اثار غضب الرجل، فوقف لبرهة من الزمن ثم أطلق رصاصة صوب ممدوح اصابته بكتفه ثم استقرت بحديد سيارة مارسيدس حديثة خلفه بالشارع، صرخ الذين في السيارة من الخوف و خرج بعض الناس من سياراتهم من الذعر لتفادي أطلاق الرصاص، صرخ ممدوح من الألم و ركع على الارض و هو يتلوى و يمسك بذراعه، و لكنه بحركة مضادة صَوًبَ مسدسه و أطلق رصاصة صوب الرجل اصابته اصابة بالغة بذراعه، سالت الدماء بشدة من ذراع الرجل فصرخ من شدة الألم قائلا                                                        

"يا كلب...أنتم كلكم كلاب!!!"
صرخت المرافقة لهند "اهربي"
صرخ ممدوح للرجل بشدة "ستدفعوا ثمن ما تفعلوه بالقاهرة انت و من يقف ورائك! أعدك بذلك!"
حاولت هند الهرب و لكن امسكها الرجل مرة ثانية، هرب الناس من حول ممدوح من الخوف و عَمًتْ الفوضى الشارع بأكمله، حاول الرجل تمالك نفسه فتارة كان يمسك ذراعه التي تنزف و تاره كان يحاول السيطرة على هند التي كانت تحاول الهرب منه، كان يتراقص في مكانه من الألم فالموقف و الألم كانا شديدين عليه، و لكن بعد برهة من الزمن ترك الرجل الرهينة من قبضته و استدار الى الخلف و قفز من على صور الكبري في النيل، نهض ممدوح و هو يتألم من اصابته و سار بسرعة الى صور الكبري، فرآى الرجل يحاول السباحة صَوْب ضفة من ضفاف النيل...ملئت الدماء سطح النيل و الرجل يتخبط في المياه و لكنه بعض عدة ثواني فقد القدرة على العوم و استسلم لتياراته القوية، فغرق و اختفى عن سطح النيل، اسرعت نحوه مرافقة الرهينة و قالت له...
"اصابتك بالغة، عندي صندوق اسعافات أولية في السيارة، هند أطلبي الإسعاف!"
اجابت هند مطيعة "حاضر يا أمي!"

فجأة تحرك السير و ابتدأت السيارات تسير في الشارع بصورة طبيعية من جديد، نظر اليهم بعض من المارة بالشارع و والدة هند تُحْضِرْ صندوق الإسعاف من سيارتها، عادة بسرعة الى صور الكبري و هي تقول
"ارجوك اجلس على الأرض و لا تتحرك، فالجرح ينزف كثيرا،"
قال ممدوح و التعب قد انهكه "شكرا لكِ سيدتي...من أنتِ؟"
"انا مرفت الجوهري ابنة صالح الجوهري..."

اقتربت هند و ممدوح يجيب مرفت "لا تكملي...مالك شركة رمسيس لصناعة الحديد و الصلب"
أجابت بإرتباك و هي تعقم الجرح "ذكائك حاد جدا يا أخ...أم هل انت استخبارات سيدي؟ و ماذا كان يريد منك هذا المعتوه...ثم ما هي طبيعة عملك بالضبط..."
تألم ممدوح حينما شعر بالمعقم يلامس جرحه و قال "زوجتي من بيت الجوهري، إنها ابنة عبدالله عزت كفاح الجوهري، أنا أعمل بالجهاز الأمني بالقاهرة...و هذا مجرم كنت ألاحقه"
لَفًتْ قطعة من الشاش الأبيض حول ذراعه ثم قالت شاكرة "الحمدلله بأنه لم يؤذي ابنتي هند، حينما احتجزها شعرت بخوف رهيب لم أشعر به طوال حياتي، تجمدت الدماء بعروقي ألف مرة و هو يهددها بالمسدس،"
أجابت هند "سيحضر الإسعاف قريبا،"
"قد يحتاجكم الأمن للإدلاء بشهدتكم...فهل تمانعان؟"
"اجابت مرفت مطمأنة "هذا واجبنا..."
*********************
نظر ممدوح و هو على متن قارب الشرطة الى الجثة التي انتشلها رجال الغطس للتو و وضعوها أمامه، كان يقف بجانبه العقيد محسن عبدالسلام زميله في الدائرة و رفيقه بمعظم القضايا التي تعامل معها خلال خدمته في دائرة المخابرات، كان محسن أنيق الطلة بطبعه المهني، فكان يرتدي كعادته بذلة أنيقة جدا بخلاف ممدوح الذي كان مازال بثيابه المتسخة و التي ارتداها منذ الصباح، فلم يتسنى له الذهاب الى المنزل ليبدل ثيابه خصوصا أنه اضطر للذهاب الى المشفى للعلاج، فتبين ان الرصاصة كانت قد تسببت بجرح في ذراعه و لم تستقر بها إطلاقا، كما أنه اراد العودة مع قوارب التفتيش الأمنية بالسرعة الممكنة لإنتشال جثة الرجل الذي اشتبك معه على كبري كورنيش النيل في ساعات الظهيرة،
لهث ممدوح حينما رأى القتيلة ممده أمامه و ارتجف جسده قليلا من رهبة الموقف، نظر محسن الى الغطاسين و قال "و ما قصة هذه الإمرأة يا ترى؟"
أحاب ممدوح "أنه رجل و قد غرق منذ ساعتين، يبدو أن مياه النيل جرفته الى مكان أبعد مما نحن عليه..."

أجاب أحد الغطاسين "عمليات التمشيط لم تنتهي بعد و هنالك ثلاثة قوارب آخرى تعمل مع فريقنا، سنجده يا سيدي، لا تقلق،"
نظر ممدوح الى وجه الفتاة و الى هندامها، كانت ثيابها ماتزال بحالة جيدة، و كانت حافية القدمين...و لكن المريب بالموضوع أن معالم الوجه كانت مشوهة تماما...و كأن تم تشويهها بآلة حادة، ضرب محسن كفا بكف و قال...

"لا حول و لا قوة إلا بالله، ابتدأنا بقضية و ها نحن نقف أمام واحدة أخرى،"
جلب الغطاسين كيس بلاستيكي كبير و باشروا بوضع الحثة في داخله بينما أمعن ممدوح النظر بها، امسكها الغواصين بعناية فائقة و وضعوها بالكيس و اغلقوه بإحكام، ففكر في ذاته بأمرها و كيف شاء القدير أن تُكْتَشَفْ هذه السيدة...و كأنه تدبير رباني كي لا ينساها القدر بقاع هذا النهر العظيم فريسة مسكينة لتياراته الجبارة، فشاء الله ربما أن يشتبك مع الرجل الذي كان يراقبه فوق كبري قصر النيل فوق هذه المنطقة بالذات كي يعود بعد ساعات معدودة للبحث عن جثته...و لكن ليكتشف أمر هذه الإمرأة المسكينة، غالبا سينصفها تقرير الطب الشرعي...فربما سيعلن أنها موجودة بقاع النيل منذ بضعة ايام، و غالبا سيقول بأنها قُتِلَتْ لتبدأ شرطة القاهرة رحلة بحث جديدة وراء الفاعل...و الله أعلم إذا كان قاتلها لا يزال بالقاهرة بعد هذه الجريمة أم رحل الى المناطق الجنوبية حيث القرى الصعيدية ليضيع بين الملايين هنالك...و لكن السؤال الأهم هو هل لها علاقة بقضية ندى الأسيوطي؟ هل لها علاقة بكارمن الجاسوسة؟ إذا كان الأمر كذكلك ستزداد الأمور تعقيدا...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات