مفاتيح الأمل


في زاوية من زوايا المسجد يجلس أبو حمدان وعدنان وجدعان وسليمان ، يتذاكرون بينهم الأيام الماضية بعيدها وقريبها ، وكان أبو حمدان شيخ الجلسة باعتباره الأكبر سنا بين الحاضرين ، وهو صاحب الخبرة الطويلة في حلم طال انتظار تحققه بعد رحلة المعاناة القاسية التي افظت به إلى ديار غير دياره ، بعد أن كان ملكا في بيته الشامخ على سفح تلة لايرى فيها إلا الألوان الخضراء ، وروائح الورود الزكية ، والأشجار التي تكيفك بمجرد أن تنظر إلى ظلالها الوارفة ، ويزيد الجمال جمالا قنوات المياه التي تلتقي في أحواض الأشجار متعاونة فيما بينها دافعة مايزيد عن حاجتها إلى أخواتها القريبات ، يعيش جنة الله على الأرض .

كانت لحظات الماضي المخزنة في الذاكرة تبعث في النفس الألم ، وفي الصدر ضيقا يبتسم ألما تارة ، وتتغير قسمات وجهه قهرا تارة أخرى ، فيأخذ أبو حمدان نفسا طويلا ليعيده بعد هنيهات من جديد لعله يستريح من ثقل الهم الذي يطل عليه مع كل لحظة ذكرى تمر لمشاهد الظلم والعدوان وجبروت السلطة والقوة ، وقد انتزع منه بيته لالشئ إلا لأنه لايملك الردع ، وقد حكم العباد بين العباد ، واقتسموا غيرهم بحجج اوهن من الوهن ، فلم يكن للحمل إلا أن يقبل قسمة الثعلب ، ووقتئذ أيقن أبو حمدان أن المكان لم يعد ذاك المكان ، وان السكان لابد أن يغادروا لغيرهم من السكان ، أراد أن يتمسك بمفتاح البيت في إقناع للذات أن إغلاق الباب سيحمي ماخلفه ومازال بيده شئ من أدوات الحق وانه مهما طال الزمان فلن تكون أيام الانتظار أكثر من أيام العمر ، فيمد يده للحاضرين حاملا معه مفتاح الأمل ، الذي لم يفرط به منذ سنين ، ويكرر ولن أفرط به وان انقضت أيام العمر فسأسلمه لحمدان كي يبقى هذا المفتاح الحقيقة الكبرى والشاهد على أن وطني هو وطني .

يتبادل المشردون الأعراب حكاية لاتختلف كثيرا عن حكاية أبي حمدان إلا بالشخوص الذين تقمصوا دور صاحب الحق ، وغيرهم أعداء الوطن رغم أنهم من أنفسهم ، لتزيد الغصات غصات ، فشردوهم كل مشرد ، ومزقوهم كل ممزق ، وكلا منهم أبا حمدان يحملون مفتاحهم بأيديهم مفاتيح أبواب بيوتا لم تعد بيوتا ، ولكن تبقى المؤنس والشاهد الوحيد على بيوت قد أصبحت أطلالا وعلى أوطان لم تعد إلا في الأذهان.

يموت أبو حمدان ولا يموت الحلم الذي ورثه حمدان مع المفتاح ؛ ليشتم منه تراب وطنه قبل أن يشتم منه ذكرى والده ، ويتفق حمدان وعدنان وجدعان وسليمان على أن يحملوا مفاتيح بيوتهم ويهاجروا في ارض الله الواسعة ، فقد وصف لهم بلادا لايظلم بها احد وان الإنسانية بكل تجلياتها الرحمانية ديدنهم !! فقرروا الانصياع إلى التمنيات التي كانت تغيب وتحضر في أذهانهم ، تحضر حينما يرون الأمواج البشرية تتدافع على بيوت أهل العدل !! وتغيب حينما يرون مايجري من مشاهد القهر والعبودية والموت في تداخل عجيب ، ولكنهم قرروا أن يصموا أذانهم عما يسمعون ، ويغلقون عيونهم عما يشاهدون ، وكل واحد يمني النفس أنها فرصة في الحياة تأتي مرة واحدة ، وربما هي له ، فينطلقوا راكبين البحر في رحلة اللاعودة ، فيسبقهم غدر البحر وينهي أحلامهم المتعددة وتنتشل جثثهم الهامدة دون مفاتيح الأمل التي غرقت حيث لااحد يفكر فيها بعد الآن ، وأصبحت من أملاك الغير كما هي الأوطان ، ومات الوارث والموروث ولكن ....... لن يموت الحق.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات