خوارج العصر


شهدت المجتمعات البشرية في مراحلها المختلفة ظواهر مماثلة لظاهرة التكفير المعاصرة التي انتشرت في السنوات القليلة الماضية في البلدان العربية والإسلامية.
وقد تحول التكفير الى ظاهرة مقلقة بسبب العنف الدموي، والقتل الجماعي الذي تمارسه الجماعات التكفيرية المختلفة.

وفي الواقع لا يقتصر التكفير على البعد الديني كما قد يظن الكثيرون، فكل الأفكار والدعوات والأيديولوجيات الدينية وغير الدينية أنبتت فكراً تعصبياً كالذي شهدته أوروبا في العصور الوسطى، وادخلها في حروب دينية استمرت عشرات السنين، وذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر، وحتى في الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت العصبيات القومية والعرقية، والمصالح والرغبة في الهيمنة من عوامل اندلاع هاتين الحربين.
كما شهد التاريخ الإسلامي أول جماعات التكفير مع ظاهرة "الخوارج" الذي كان نموذجاً عن هذا الفكر التعصبي التكفيري الذي يكتفي بظاهر النص من دون أي معرفة عميقة بدلالاته، علماً بان الخوارج كانوا - كما تذكر النصوص التاريخية- من أكثر الناس حفظاً للقران، وتمسكاً بتطبيق ما جاء فيه، ولكن بحسب فهمهم الخاص والضّيق للنص.

وعندما ارتكبوا جريمة اغتيال علي بن أبي طالب اعتبروا ذلك تطبيقاً لشرع الله، لانّ "الحكم هو لله" وليس للبشر، وهذا فهم قاصر وتأويل محدود وخاطئ للنص....

لكن مشكلة هذا التأويل أنه عندما انتقل الى الفعل تحول الى جريمة بحق شخصية إسلامية عظيمة. والأسوأ من ذلك أيضاً أنّ هذا الفعل أسس لنهج تبرير القتل والإغتيال في التعامل مع الإختلاف على قاعدة تفسير النص.

إنّ التكفيري على المستوى النفسي والاجتماعي وضع نفسه في مواجهة مع الأفراد ومع المجتمعات في وقت واحد، وجعل نفسه مصدراً للحق وللحقيقة المطلقة، وهو يتصرف على أساس أّنّ عليه أن يلغي الآخر الذي يهدد العقيدة، وهذا الآخر قد يكون من المنتسبين الى هذه العقيدة أو قد يكون من المختلفين معها.

إنّ التعصب الديني يعني أنّ هناك من جعل المواجهة مع المذاهب أو الأديان الأخرى (الكافرة) أولوية له بدل أولوية الانفتاح والإقناع، وبهذا المعنى فإنّ التعصّب هو نتيجة العجز وليس نتيجة القوة، وعندما يستخدم أصحاب هذا الاتجاه القوة للقضاء على الآخر المختلف، فهم يعبرون عن هذا العجز عن الإقناع، وعن العجز عن تحمل الاختلاف.

كان للقوى الخارجية مثل الولايات المتحدة دور مهم ومباشر في التحريض الإعلامي والسياسي المذهبي. وقد استخدم المسؤولون الأمريكيون بكل وضوح في تصريحاتهم الرسمية، منذ احتلال العراق، مصطلحات مذهبية، في توصيف البلدان العربية وما يجري فيها، بحيث تعمّدت الإيحاء الى شعوب هذه البلدان أنّ ما يحصل فيها من مشاكل، ليس سببه الإحتلال، بل السنة من جهة أو الشيعة من جهة ثانية. وقد ساهمت هذه التصريحات التي كررتها فضائيات عربية وغربية في الترويج لبيئة المخاوف بين السنة والشيعة.

وقد لعبت العوامل السابقة كلها أدواراً متفاوتة من حيث التأثير في تأسيس الفضائيات الدينية، وفي نشر أفكار التّعصّب والفتنة بلا أي ضوابط، بحيث بات الواقع الفضائي العربي أمام انفجار إعلامي. ومن الملاحظ أنّ القنوات الدينية جعلت من بعض رجال الدين المتشددين والمتعصبين "نجوماً"، وهذا متغير جديد في الواقع الاجتماعي/ الإعلامي العربي.
إنّ المتعصّب دينياً لا يمتلك أي قدرة على البناء، ولا على تقديم النموذج المجتمعي الذي يشجّع الآخرين على الالتحاق به، أو الدفاع عنه؛ لانّ التعصب الديني هو نتاج قراءة خاصة للنص المقدس لا علاقة لها بالواقع، ولا حتى بالسيرة النبوية، ولا بالنصوص القرآنية. والتعصّب يستند الى منهج انتقائي فيختار من النص ومن التاريخ ما يبرر ما ذهب إليه من المغالاة ومن التشدد.

وهذا النوع من التفكير، ومن الممارسات لا يمكن أن تكتب له الحياة، وهو مخالف لطبيعة المجتمعات التي عاشت دوماً على التنوع، ولا يمكن لأي مجموعة دينية أو عرقية أو مذهبية أن ترضخ لمن يريد أن يقضي عليها، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة. كما أنّ التكفير والتشدد نفسه لم يسلم من الانشقاق أو من الاقتتال في ما بين اتجاهاته المختلفة، وهذا أمر طبيعي لان منطق التكفير ومنطق التعصب هو منطق إقصائي ،لا يستثني أحدا، ولا يمكن أن يتوقف عند أحد.

وما يزيد من صعوبة المشكلة أنّ التّعصّب الديني اليوم يتغذى من الواقع السياسي، ويخضع في الوقت نفسه للمصالح السياسية لهذا البلد أو ذاك، بحيث لا يمكن قراءة ظاهرة التعصب الديني المعاصرة بمعزل عن الصراع السياسي بأشكاله وتحالفاته المختلفة الإقليمية والدولية، وما جرى في أفغانستان من دعم دولي غربي وإقليمي من بعض الدول العربية والإسلامية "للمجاهدين" لقتال السوفييت دليل واضح على هذا الاستخدام السياسي للتعصب الديني.

وما يجري في سوريا اليوم هو تكرار لهذا التوظيف للتّعصّب الديني من أجل أهداف سياسية، وبهذا المعنى تصبح مواجهة التّعصّب الديني التكفيري مواجهة شاملة وصعبة، قد تختلف أولوياتها من بلد وآخر، ما بين مواجهة أمنية، وفكرية وإعلامية وفقهية وسياسية... لانّ ظاهرة التعصب ليست نتاج عامل واحد فقط اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو نفسي أو ثقافي، بل هي نتاج ذلك كله.

فكيف يمكن أن يعيش هؤلاء؟ وكيف يمكن أن يفكروا في المستقبل؟ وكيف ستكون نظرتهم الى باقي مكونات المجتمع؟ وعن أي مجتمع يمكن أن نتحدث بعد ذلك؟
لهذا كله، ليس لظاهرة التكفير أي مستقبل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات