الثوابت السّلفيّة .. لا ثوريّة ولا فلسفيّة !


الحمد لله الذي جعل في كلّ زمانِ فترةٍ من الرّسلِ بقايا من أهل العلم ، يَدْعون من ضلّ إلى الهدى ، ويصْبِرون منهم على الأذى ، يُحيونَ بكتاب الله - عز وجل - الموتى ، ويبصّرون بنور الله أهلَ العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضالّ تائهٍ قد هَدوه .

فما أحسنَ أثرُهم على الناس وما أقبحَ أثر الناسِ عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة . [ من خطبة الإمام أحمد المشهورة في الرّد على الزنادقة والجهْميّة ]

لم يكن لمُسلم أنْ يرضى بما هو جارٍ في بعض ديار الإسلام من قتلٍ لإخواننا وتنكيل وظلم وتشريد ، واقتتال وتناحرٍ بين المسلمين ؛ واللهُ – وحده – المُستعان ؛ هو غافرُ الذنوب ، ومُفرِّج الكُروب .
يعْلمُ العُقلاء – جيّداً - أنّ مبدأ ما يدور رحاهُ من الأحداث الجارية اليوم هو اتخاذ ( الشعوب العربيّة ) للمظاهرات والاعتصامات أسلوباً للإنكار على الحكّام ، والمطالبة بالحقوق ؛ ومن ثمَّ تطوُّرُ الأمر حتى تحوّل – بتسارع مُذهل! – إلى مطالبات بتغييرهم أو إسقاطهم ؛ وتحت دوافعٍ و شعاراتٍ كثيرة ليس هنا محلّ بحثها.

موقفُ علماء الدّعوة السلفيّة – من تلك الأحداث والأساليب – لم يكن جديداً أو حادثاً ؛ فإنّهم على تحريم المظاهرات والاعتصامات - وما أشبههما – لِما يترتب عليها من المفاسد العامة ، ويرونها من الأساليب الدخيلة الغريبة على أمتنا ؛ وأمّا الخروج على الحاكم - دون اعتبار الضوابط والشروط الفقهيّة - فهم على تحريمه وإنكاره لِما يُفضي إليه من الشرِّ العريض والفساد على البلاد والعباد .

وها هي الثوابت السّلفيّة المتسلسلة في مسألة الخروج على الحكام :

مع بدايات زَحْف ( الربيع الغربيّ ! ) إلى ديار المُسلمين قال السلفيون :
- " منذ أن تفتّحت أبصارُنا وبصائـرُنا على العلم بالشرع - والمعرفة بالواقع - ونحن نُفْتي - تديُّناً حقيقيَّاً بالدليل والبرهان - بعدم جواز الخروج على أولياء أمور المسلمين - وإن جاروا وظلموا - لأدلّة كثيرةٍ سطّرها أئمّةُ العلم المتقدِّمون -أجمعون - ناقشناها، وبحثناها - كثيراً كثيراً - ..
وكذلك الأمرُ – مِن قَبْلِ ما سُمِّيَ بـ ( الربيع العربي ! ) - ونحن نحذِّر –أيضاً - مِن المظاهرات ، والاعتصامات ، والإضرابات - وما في معنى ذلك مِن (خُذْ وهات ! ) -وتحت جميع المسمّياتِ - حتى لو ادُّعي كونها سلميّةً !! - لِما لها من آثار وتَبِعات على الفرد والمجتمع ، والدول والأفراد ، والأبدان والنُّفوس - والواقع دليلٌ ما له مِن دافِع – .
فالمظاهراتُ – تحت أيِّ شِعارٍ كانت - ولو ادُّعِيَ - بغير حقٍّ - سلميَّتُها ! - : بابُ شرٍّ ومحنة ، ولُبابُ بلاءٍ وفتنة.. وسبيلٌ مفتوحٌ إلى الخروج على أولياء الأمور ؛ فضلاً عمَّا سيجرُّ- ولا بُدّ - مِن وراء ذلك - إلى فتن كِبارٍ كبارٍ - في الدين والدنيا ، وعلى الحاكم والمحكوم – "
( من مقالٍ لشيخِنا العلامة علي بن حسن الحلبي )


وقد قال من قبله الإمام الألباني - توفي سنة 1420هـ رحمه الله - :
" لقد سمعتُ كلام إخواننا محمد وعليٍّ [ أي : الشيخ علي بن حسن الحلبي ] حول مسألة الخروج على الحُكَّام وتكفيرهم ، وأنا أقول : لا شكَّ أنَّ ما ذكروه هو الصواب الذي لا رَيب فيه ، ولكنَّني أُضيف إلى ما قالوا أنَّ علماءَ المسلمين مِمَّن ينتمون إلى أهل السنَّة وهم بلا شك تجمعهم ثلاثة مذاهب :

المذهب الأول : مذهب أهل الحديث ، ومذهبُ أهل الحديث الذي نحن ـ والحمد لله ـ ننتمي إليه وعلى منهج السلف الصالح.

ومنهم مَن يُعرفون بالماتريدية ، ومن هم المعروفون بالأشعرية ، كلُّ هؤلاء تجمعهم كلمةُ الانتساب إلى أهل السنة.

هؤلاء في هذه المسألة اتفقوا جميعاً على أنَّه لا يجوز الخروجُ على الحُكَّام مهما ظلموا ومهما جَنَوْا، وما دام أنَّهم لا يزالون يريدون الإسلام ويُقيمون الصلاة للأئمَّة المسلمين وفي أنفسهم أيضاً.

لذلك فهذه الجماعات التي تعلنُ كتابةً ومحاضرةً الخروجَ على الحكَّام ، هؤلاء في نقدي أنا أولاً : جهلة بحكم الشرع ؛ لأنَّ الرسولَ - عليه السلام - تواترت عنه الأحاديثُ في طاعة الحُكام إلاَّ في معصية الله؛ كما قال في حديث البخاري : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وفي أحاديث أخرى أنَّه تجب طاعتهم ولو ظلموك، ولو ضربوا ظهرَك ما لَم تروا كفراً ..

وهناك قاعدةٌ فقهيةٌ أصولية : أنَّه إذا وقع المسلمُ أو المسلمون بين مفسدتين كلٌّ منهما مفسدةٌ ، لكن إحداهما أخطر من الأخرى، تُدفعُ الكبرى بالصغرى، أي نَرضى رغم الأنوف بالمفسدة الصغرى حتى نُبعدَ عن أنفسنا المفسدةَ الكبرى.
بالإضافة إلى ما ذكرتُه وأشرتُ من أحاديث، القاعدة الأصولية لا خلاف فيها بين علماء الأصول والفقه.


إنَّ الخروجَ على الحُكَّام فتنةٌ أكبر مما قد يصدر من بعض الحُكَّام من ظلمٍ وجَور وإهمال لتطبيق بعض أحكام الشريعة " اهـ ( من سلسلة الهدى والنور )

وقال – رحمه الله - في المظاهرات : " المظاهرات ليست وَسيلةً شرعيّةً لإصلاحِ الحُكم، وبالتالي إصلاح المجتمع، ومِن هنا يخطئ كلُّ الجَماعات وكلُّ الأحزاب الإسلاميّة الذين لا يَسْلُكونَ مَسْلَكَ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تغيير المجتمع، لا يكون تغييرُ المجتمع في النِّظامِ الإسلاميّ بالهتافات وبالصَّيحات وبالتظاهُرات، وإنما يكون ذلك على الصَّمت، وعلى بثِّ العِلم بين المسلمين وتربيتِهم على هذا الإسلام، حتى تؤتيَ هذه التربيةُ أُكُلَها ولو بعد زَمَنٍ بعيد، فالوسائلُ التربويّةُ في الشريعةِ الإسلامية تختلف كلَّ الاختلافِ عن الوسائلِ التربويّة في الدُّوَلِ الكافِرة "

( من فتاوى جدة – شريط 12 )


وقال من قَبْله الإمام المعلّمي – توفي سنة 1386 هـ - رحمه الله :
" ومن كان يكرهه ( أي: الخروج على الولاة ) يرى أنّه شق لعصا المسلمين ، وتفريق لكلمتهم ، وتشتيت لجماعتهم ، وتمزيق لوحدتهم ، وشغل لهم بقتل بعضهم بعضاً ، فتهن قوّتهم وتقوى شوكة عدوّهم ، وتتعطّل ثغورهم ، فيستولي عليها الكفار ، ويقتلون من فيها من المسلمين ، ويذلّونهم ، وقد يستحكم التنازع بين المسلمين فتكون نتيجة الفشل المخزي لهم جميعاً ، وقد جرّب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشرّ "
(كما في الموافقات 5 / 150)


وقال مِن قبله الإمام محمد بن عبد الوهاب – توفي سنة 1206 هـ رحمه الله - :
" فمن اعتقاد أهل السنة والجماعة : السمع والطاعة لمن ولاه الله أمرنا، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن نرى كفرًا بواحـًا عندنا فيه من الله برهان .

وهذا خلافاً لأهل الجاهلية الذين يرون مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة له ذل ومهانة ، فخالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد "
( مِن مسائل الجاهلية / المسألة الثالثة )



وقال قبله الحافظ ابن حجر العسقلاني – توفي سنة 852 هـ رحمه الله - :
" وقولهم كان يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف قديم ، لكن أستقر الأمر على ترك ذلك لمّا رأوْه قد أفضى إلى أشدّ منه ؛ ففي وقعة الحرة ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر "
( مِن تهذيب التهذيب عند ترجمة الحسن بن صالح)

وقال قبله شيخُ الإسلام ابن تيمية – توفي سنة 728هـ رحمه الله - :
" ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم ، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة ؛ فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ، ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي إزالته " (منهاج السّنّة 2 / 241 )

وقال – رحمه الله - : " وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلمٍ وجورٍ ، كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه، وتزيل العدوان بما هو أعدى منه ، فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم ، فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور والمنهي في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى :
{ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك } ، وقوله – تعالى - : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وقوله تعالى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } " اهـ
(مجموع الفتاوى 28 / 179 ، 180 )


وقال قبْله الإمام النووي – توفي سنة 676هـ رحمه الله - :
" وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام باجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث على ماذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق "
( شرح النووي على مسلم )


وقال قبله الإمام ابن عبد البر – توفي سنة 463هـ رحمه الله - :
" فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأنّ في منازعته والخروج عليه : استبدال الأمن بالخوف ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي الدهماء ، وتبييت الغارات على المسلمين ، والفساد في الأرض ، وهذا أعظم من الصبر على جَوْر الجائر " ( الاستذكار 14/41 )


وقال قبْله الإمامُ الآجريّ – توفي سنة 360هـ رحمه الله - :
" من أُمِّر عليك من عربي أو غيره، أسود أو أبيض، أو أعجمي، فأطعه فيما ليس لله عَزَّ وَجَلَّ فيه معصية، وإن ظلمك حقًّا لك، وإن ضربكَ ظلمًا، وانتهكَ عرضك وأخذ مالك، فلا يَحملك ذَلِكَ عَلَى أنه يَخرج عليه سيفك حتَّى تقاتله، ولا تَخرج مع خارجي حتَّى تقاتله، ولا تُحرِّض غيرك عَلَى الخروج عليه، ولكن اصبر عليه "
( الشريعة ص 40 )


وقال قبله الإمامُ أحمد بن حنبل – توفي سنة 241هـ رحمه الله - :
" عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دمائكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برٌّ، ويستراحَ من فاجر.

وقال: ليس هذا- يعني نزع أيديهم من طاعته - صواباً، هذا خلاف الآثار "
وذلك لمّا اجتمع إليه فقهاءُ بغداد في ولاية الواثق وقالوا له : إن الأمر قد فشا وتفاقم - يعنون إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك - ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه .
(السُّنّة للخلّال ص 133 )


وقبلهُ قال الحسن البصري – توفي سنة 110 هـ رحمه الله - :
" اعلم - عافاك الله - أن جَوْر الملوك نقمة من نقم الله تعالى ، ونقمُ الله لا تلاقى بالسيوف ، وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب ؛ إنّ نقمَ الله متى لقيت بالسيوف ، كانت هي أقطع، ولقد حدثني مالك بن دينار : أن الحجاج كان يقول : أعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنبًا، أحدث الله في سلطانكم عقوبة.

ولقد حُدَّثتُ أن قائلًا قال للحجاج : إنك تفعل بأمة رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - كيت وكيت، فقال : أجل إنما أنا نقمة على أهل العراق لما أحدثوا في دينهم ما أحدثوا ، وتركوا من شرائع نبيهم - عليه السلام - ما تركوا "

( آداب الحسن البصري لابن الجوزي ص 119 - 120 )


وبعدُ أقول : أفرأيتم إلى هذه السلسلة من الأئمة كيف اتسقت أحكامُهم وتناسقت ؟ ألا يدلك هذا على أنهم نهلوا أصولَها من مَعينٍ واحدٍ : العلم الصحيح والفهم السليم وحُسن النظر في النصوص ؟
وبعدُ :

هذا فقهَ السلفيين الذي لم يفارقوا به أسلافهم من الأئمة الأعلام في مسألة الخروج على الحاكم ، وتبيّن لك أنّ أقوالهم فيها هي من جنس تقريرات أولئك الأئمة إلى درجة التطابق ! ، وما كان هذا منهم إلا ابتغاء وجه الله – تعالى – بدرء المفاسد العظيمة عن المسلمين ، وحقن دمائهم ، وحفظ أوطانهم ليس غير ! .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات