طوائفُ الضّلال والمَيْل .. كغُثاء السّيْل !


مناصبةُ النّاصحين الاستعلاء الفكريّ ، أو مقابلتهم بالتجاهل والاستكبار الفطريّ ، ثمّ تشويه محتوى النّصيحة وصفة مُصدّرها المُعتمِدة على النّقل ؛ هو دليل فساد المذهب وجنوح الطريق ، أو جموح النفس وجمود العقل ! ، وذلك بأنّ نصيحةَ الخلْق هي أعظم ما عُبدَ الله – تعالى – به ؛ فمن تجاوزها – إسداءً أو قبولاً – فقد ألزم نفسَه مِنْ الأغلاط والانتكاسات ما لا يطيق ، وما يدفع به نحو اقتراف الحماقات التي فيها شفاءُ صدْر العدوّ وغيْظُ الصديق ! .

مِن كبائر اليقين أنّ الأحزابَ والفرق الإسلاميّة التي تناثرت في أرض المسلمين ، وتناحرت باسم الفهم الطائفي للدين ؛ هي أسُّ البلاء الحائقِ – اليوم - بالأمّة ، والحالِقِ أسبابَ تمكين أهل السّنة ؛ ولا عجَبَ فإنهم قد تجاذبوا النّاسَ إلى طرائقهم المغروز بها فِكرُ الشخوصِ ونتاجُهم المُنشأ من مُجرّد العقل ، أو المغروس فيها نبْتُ المذاهب الفلسفيّة والكلاميّة والفرق الضّالة التي خَلَت من قبل ..! .

والنتيجة الحَتْم – في المُسلمين - : التنازعُ والفشل ..! ، والانحطاط المادّي والمعنوي والإعياء ، وخَرْق الحُرمات والاهتراء ، والاقتراب من التلاشي .. ، والمَكث من الحضارة في الحواشي !

فأيّ تحزّبٍ هذا الذي احتملت الأمّة مغبّة مآله ، وسيّئ آثاره وحالِه ، وغرقت في أوحالِه !
( الفشل ) و ( التنازع ) وردا – لفْظاً - في القرآن الكريم في عدّة مواضع ، لكنهما جاءا مرتبطين في ثلاثة :
الأول : قول الله – تعالى - :{ حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } ( آل عمران:152)

قال محمد بن كعب القرظي - كما في تفسير القرطبي – " : لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ! فنزلت هذه الآية "

فكان الفشلُ أولاً – وهو الضّعف والخَوَر والوهن – الذي أدّى إلى التنازع والاختلاف وترك ما امر الله به من الائتلاف .. ، وهذا من باب ترتّب المعلول على علّته : حصول التنازع بسبب الفشل .

الثاني : قوله – تعالى - : { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر } ( الأنفال:43 )
ويُقال في تقديم الفشل على التنازع – هنا – ما قيل على الآية الأولى : ضعف الأمّة له تبعاتٌ خطيرة من أكبرها الاختلاف والتفرّق .

الثالث : قول الله – تعالى - : { وأطيعوا اللهَ ورسولَه ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحُكم } ( الأنفال:46 )

وهنا يُبيّن لنا الله – تعالى – أنّ من ثمرات التفرّق المُرّة فشلُ المسلمين ، وذهاب دوْلتهم وقوّتهم وغلَبَتهم ؛ فلا يبقى لهم في قلوب أعدائهم مهابةً أوخشيَة ؛ مثلما حصل في أزمنة كثيرة تجرّعوا فيها الذلّ والهوان ، وعمّ ديارهم الويلات الخراب .

في هذا الزمان تلازم الفشل والتنازع وتسابقا هَجْماً على بلاد الإسلام ؛وتُخطِّف النّاسَ بشبهات المُبطلين لمذهب أهل السّنة وأمْرهم الأوّل وما كان به عِزّ الأمة وتمكينها ، وذهب أكثرُهم مع الدعاوى الحماسيّة التي تَعِدُهم الخلافة المفقودة والتمكين في الأرض بلا عِلمٍ ولا هُدى ولا كتاب منير ..! ؛ وهذا لأنهم حصروا الخلافة في السلطة السياسيّة التنفيذيّة العُليا وجعلوها المقام الوحيد لها ، متغافلين عن كونها مقاماً أولاً يتبعها مقامات استخلافيّة أخرى كالإيمان والعمل الصالح والأمن الاجتماعي والحضارة الإنسانيّة والماديّة .. ؛ وهو ما تقضي ببعضه الآية الكريمة : {وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا مِنكم وعَملوا الصّالحات ليسْتخلِفَنّهم في الأرضِ كما اسْتخلَف الذين مِن قبْلِهم } (النور:55) .

ربما يكون ارتباطُ اسم ( الخلافة ) بنظام الدّولة في الإسلام سبباً رئيساً في تصوّر الجماعات والفرق المختلفة لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغيرهما من الأصول الشرعيّة في الإصلاح ؛ فنذروا جهودهم إمّا في العمل السياسيّ المختلط بما فيه من نُظمٍ خارجة عن الدين والسياسة الشرعيّة المُعتبرة ، وإمّا في فرضِ ما حصّلوه من معنى الخلافة بالفهم القاصر عن طريق القوة والعنف والشدّة ، وما تَبِع هذا من مسائل التكفير والخروج على نظام الحكم بالسلاح دون اعتبارٍ للضوابط الشرعيّة والشروط التي أصّلها العلماء .

الناظرُ بعين التحقيق والتدبّر الفقهي في واقع الأمة اليوم يرى جليّاً أنّ عامّة المتديّنين قد انقسموا على هاتين الطائفتين ، وكذلك اغترارَ كثيرٍ من الناس بمناهجهما وإنْ لم ينتسبوا إليهما ؛ فكانوا لهما ناصرين من حيث لا يدرون ! .

" والناس في زماننا أسراب كالطير يتبع بعضهم بعضاً ؛ لو ظهر فيهم من يدّعي النبوة - مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء - أو مَن يدّعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً "
كما قال ابن بطة العكبري في ( الإبانة )
فكيف بمن تزيّا لهم بثوب الدّعوة إلى دين الله – تعالى – ولو كان الظاهر من مسلكه مخالفة السّنة ، أو تزيّن بالعبارات الموهمة بالغَيرة على الإسلام والمسلمين والإنكار على من وقع في شيء من المحظورات الشرعيّة ! .

وهذا – كلّه – لا يكون حقّاً ولا صدقاً إذا جاء من غير طريق السّنة وأهلها فهماً وتطبيقاً ؛ قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : " الحق دائماً مع سنة رسول الله - صلى الله عليه و سلم - وآثاره الصحيحة، وأن كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة، لم يكن القول الذي انفردت به إلا خطأ، بخلاف المضاف إليه أهل السنة والحديث، فإن الصواب معهم دائماً، ومَن وافقهم كان الصواب معه دائماً لموافقته إياهم، ومن خالفهم فإنّ الخطأ معهم دونه في جميع أمور الدين، فإن الحق مع الرسول - صلى الله عليه و سلم – ؛ فمن كان أعلم بسنته وأَتْبَع لها كان الصواب معه، وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته، وأتْبَعَ لها، وأكثر سلف الأمة كذلك، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين! " ا.هـ .‏

وقريبٌ من هذا الحال فقد تولّد عن فشل الأمّة وتنازعها طائفةُ الدّخلاء على العلم وأهلِه ؛ وهم مَن أُصطُلِح على تسميتهم بالمفكرين أو المستنيرين الخائضين في الأمور الشرعيّة للعامّة ..! ؛ ولو تتبَعْتَ جُلَّ أولئك لوجَدّتهم من أصحاب الرأي أو المُعترضين بالعقل الجريح على النّقل الصحيح ..! ، وهم يُلبِسون على المسلمين أمْر دينهم بحجة تعظيم شأنْ العقل ومحاربة الجمود الفكري – ويقصدون به تمسك اهل السّنة بالنصوص الشرعية الثابتة وفهم السلف لها – وكذلك دعاوى ( فقه الواقع ) الذي حمّلوه ما لا يحتمل ! ، وبعيداً عن التأصيل الشرعي الضابطِ لتأثير الزمان والمكان على الأحكام الفقهيّة ؛ فمالوا وأمالوا ! .

هؤلاء ومَن قبْلَهم – ومَن اتّبعهم من العوام أو اغترّ بهم أو انخدع ! – غَدَت الأمّة مُثقلةً بهم ؛ فأنّى لها النهوض والصحوة ! ، والمصيبة الأكبر انهم صاروا – مع تكاثرهم! - كغثاء السّيل يطفو على السطح فيحجب صفوَ الإسلام ، ويطمس حقّه وحقيقته ، ويشوّه صَوْتَه وصورته ! .

خاتمة :
هذه الأمّة – فضلاً من الله - حيّة لا تموت .. ؛لكنّها إذا نَكَصَتْ عن الحقّ نَكَسَتْ في الخَلْق ، وكُلّ مسلمٍ على ثغرٍ من ثغور هذا الدّين ؛ فإنْ أتى الدين شيء من قِبَلِه – بتقصير منه أو دعوةٍ لباطل وبدعة او عداءٍ لأهل السّنة والعلم ! - فسيلقى من الله – تعالى – مالا يحتسب وخُسراناً مبيناً .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات