بين ( المنهج السّلفيّ ) التبشيريّ و ( المنهج التكفيريّ ) التدميريّ !
الحمد لله الذي بعث رسلَه مُبشرين ومُنذرين ، وهُدى ونوراً ورحمة للخلق أجمعين ، وجعل في كلّ زمانِ فترةٍ من الرّسلِ بقايا من أهل العلم ، يَدْعون من ضلّ إلى الهدى ، ويصْبِرون منهم على الأذى ، يُحيونَ بكتاب الله - عز وجل - الموتى ، ويبصّرون بنور الله أهلَ العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضالّ تائهٍ قد هَدوه.
فما أحسنَ أثرُهم على الناس وما أقبحَ أثر الناسِ عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة.
أهلُ السّنة أعلمُ النّاس بالحقّ ، وأرحمُهم بالخلْق – كما قال شيخ الإسلام ابنُ تيميّة – لأنهم أصحابُ سَيْرٍ على الأثر ، وذوو فقهٍ وفهم ونظر ، لا ينحرفون عن المنهج النبويّ الذي خطّه نبيّنا محمد – صلى الله عليه وسلّم – وعلّمه الأمّة ، وبيّنه لها : محجّة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك ، ولا ينجو – في الدنيا والآخرة – إلا متّبعٌ لها وسالك .
قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - : " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ .. " .
والنبيُّ - عليه الصلاة والسلام - مبلِّغٌ عن ربِّ العزة ،{ وما ينطق عن الهوى } ، وكل شيء أخبرنا بأنه سيقع ؛ فلا بدَّ من وقوعه ؛ فحصل اختلاف ٌ كثير ، وكان منه أنْ امتدت إلى صفاء ' المحجة البيضاء ' يدُ التبديل و التحريف ، والتشويه والتزييف ؛ سواءٌ كان من أعداء الدين ، أو من أهله ! ؛ من ( المبتدعة ) و ( أهل الكلام والفلسفة ) و ( الفرق ) الضّالة التي أبلغنا عنها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ وما أحدثته في دين الله تعالى .
ولذا كان المنهج الأنقى ، والمسلك الأرقى – في كلّ زمان ومكان - هو الذي يقوم على تصفية الإسلام مما ليس منه ؛ من عقائد باطلة و بدع ٍ وخرافات وغيره ! ؛ وكذلك تصفية الفقه الإسلاميِّ من الاجتهادات الخاطئة المُخالِفة للكتابِ والسُّنة ؛ ثمّ بعد هذا تربية المسلمين على ذلك الإسلام المُصفّى .
في العصر الحديث ظهرت دعوةٌ دينيّة راسخة تؤصّل لمنهج علميٍّ يقوم على إحياء مذهب السلف الصالح الأول في فهم الكتاب والسّنة ، وتصفية الدين الإسلامي من شوائب البدع والخرافات في المعتقدات والعبادات والمعاملات ، وكذلك الأقوال الفقهيّة الشّاذة ؛ ثمّ تربية الأمّة – بعد ذلك – على هذا الإسلام المُصفّى ؛ وهذا المنهج معروف - عند أصحاب هذه الدعوة – بـ ( منهج التصفية والتربية ) ؛ والذي قاد لواءه مُحدِّث العصر الإمام المجدّد محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ؛ والذي يعود إليه الفضل – بعد الله عز وجل – في الانتشار الواسع لهذه الدّعوة السّلفيّة في بلدنا العزيز الأردن وفي غيره .
إنّها دعوةُ النّاس إلى نور الإسلام الحقّ { بالحكمة والموعظة الحسنة } واللين والرّفق ، وتعليمهم أمْرَ دينهم وما به صلُح أوّلُ هذه الأمة في كلّ المجالات ، وكذلك هدايتهم إلى سبيل النجاة من فتن الدنيا وعذاب الآخرة بالعلم الصحيح والفقه السليم الذي يتبصّر أحوال الواقع وحقيقة الحوادث والنوازل والوقائع ، وأصحابُ هذه الدعوة – مع هذا كلّه – راصدون متربّصون لنتاج أصحاب الفهم السقيم والتّطرف والغلو المُبطلين للآثار ، وأهل الهوى والإغواء والجهل والضلال فيدفعونه بسيف الحجّة والدليل والبيان حِفظاً لبيضة الإسلام والسّنة والحقّ ورحمة للخلق .
إزاء هذه الدعوة السّلفية المباركة كان إرثُ الذين ضلّوا سبيل المؤمنين - سلفنا الأوّل - يتطاول بقرنه خلال الأمّة ، ويزرعُ راياته السّوداء الغاشمة في جسدها المُنهك ؛ فتفرّق المسلمون في دينهم ، وغشِيَهم ظلامُ الهوان والوهَن والوَهم ، وتفيئوا ظِلال الجهل والتّخلّف والنكوص عن إسلامهم النّقي حتى نَكَست في الأمم ، وتعمّق الجرحُ وما التأم ! .
لقد كان نبْتُ الخوارج الأُوَل منذُ قتْلِهم الخليفة عثمان – رضي الله عنه – أكبر بلاءٍ تجرّعه أهلُ الإسلام ، ولا يزال غُصّة في حلق الأمّة ومرضٌ عُضال يعتريها من حينٍ لآخر ؛ ولولا أنّ الله – تعالى – رَحِمنا بقطْع ما كان يظهر لهم من قرْنٍ لتعاظمت الويلات وتفاقمت النّكبات ؛ ذلك بأنّ فتنتهم قائمة على تكفير المسلمين – جماعاتٍ وأفراداً – وإخراجهم من الدّين ، وهذا أمرٌ شديد الخطورة وعند أهل التقى والفهم والنظر من المسائل المحذورة ، وله من التبعات والعواقب على المجتمعات المسلمة ما لا يُحْمد أو يَخْمد : كإزهاق الأنفس المعصومة من بارئها، ودمار الأوطان و فسادها وخرابها ، ويجرّ الفتنَ المُهلكة والمحنَ المُنهكة كما شهِد بعضُ تاريخ الإسلام .
وفي زمان غربة الدّين – هذا – الذي عمّ فيه الجهل بالسّنة وكاد الناس لا يعرفون حتى عنوانَها ، وتفشّي البدع بأنواعها ونُشور ألوانَها ؛ كان الجامعون لشبهات التكفير المُستقاة مِن جِراب الخوارج يُراودون الشباب المسلم عن عقولهم بالأفكار التي تُناقص منهج أهل السّنة وطريقتهم في تنزيل الآيات القرآنيّة على المسائل المتعلقة بتكفير الأعيان والمجتمعات ، واستمالة عواطفهم الإسلاميّة الجيّاشة نحو مفاهيم الجهاد دون اعتبار الأصول الفقهية الضابطة لهذا العمل العظيم من أعمال الشريعة ، ولا الالتفات لشروطه ووسائله التي تجعله موافقاً للكتاب والسّنة ومُحقّقاً لعزّ الأمّة ومَنَعتها .
وأمرٌ آخر يميّزهم وهو استمساكهم بالدّلالة الظاهريّة للنصوص من الكتاب والسّنّة ، والمتشابه من أقوال العلماء ؛ودون النظر والتحقيق – عند إطلاق حكم التكفير – في الأسباب والشروط والضوابط الشرعيّة التي قرّرها المحققون من أهل العلم وفصّلوها في كتبهم ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " وليس لأحد أن يكفّر أحداً من المسلمين وإنْ أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجّة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يُزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة "، وقال الإمام ابن عبد البر في ( التمهيد ) : " فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أنّ كلّ من ثبت له عقدُ الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً فاختلفوا بعدُ في خروجه من الإسلام ؛ لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجةً ، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبُه - وإن عَظُمَ - من الإسلام وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا إن اتفق الجميع على تكفيره ،أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة " .
أمّا أخطرُ ما في منهجهم فيتعلّق بالميل – غالباً – نحو طرح المسائل ذات العلاقة بتكفير الحكام والتركيز عليها ؛ أو إثارة شبهات التكفير حوله ؛ ومعلومٌ أنّ تكفير الحكام هو أشدّ خطراً من تكفير غيرهم من الأعيان – وفي كلّ خطرٌ بادٍ للعيان- ؛ وذلك لما فيه من التحريض على التمرد والعصيان ، وما قد يتبعه من حمل السلاح ، وسفك الدماء ، وفساد البلاد والعباد وتدمير البنيان ! .
عند التفكير في منهج أولئك الغلاة المفتونين بتكفير المسلمين – حكاماً ومحكومين – نجدهم ملتزمين خطوطاً متشابهةً ؛ لا يَحيدون فيها عمّا رسخ في عقولهم ، واستقر في نفوسهم من ( تقارير التكفير ) ، ولا هم يُجيدون مقارعة الأدلة والحجج عند المخالفين ، أو الأقوال الناقضة لمنهجهم والتي تصدر عن الأئمة العارفين ؛ وغالباً ما يقابلونها بتضعيف أسانيدها ، أو بالتأويلات الفاسدة لها ؛ ولو خالفوا – في هذا وذاك – أهلَ الفقه والدراية، وأصحابَ الحديث والرواية .
وليس هذا فحسب ؛ بل تراهم يرمون المخالفين لهم من أهل العلم بتهم التمييع ، والإرجاء ، والتخاذل ، أو وصفهم بعلماء السلاطين ؛ بلا علم وتفكّر ، أو فهم وتبصّر ؛ بل بالجحود والتنكر ، والجمود والتكبّر ؛ وبلا اعتبار – أيضاً – لموافقة هؤلاء العلماء لمن سبقهم من جهابذة العلم المتقدّمين ؛ فيطعنون فيهم من حيث لا ينتبهون ؛ لكنّه التذرّع بضروريات ( الولاء والبراء ) في دين الإسلام ، والتسرّع بإطلاق الأحكام ؛ وهم بهذا لا يعلمون أنّ حكم التكفير كسائر الأحكام الشرعيّة ؛ مردّه إلى الله – تعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم - ، ومسائله تحتاج إلى التحرّي والتحقيق، والتحرير والتدقيق ؛ وإذ الأمر كذلك فينبغي – حتماً – أن يتولى بحثها من كان عالماً بالكتاب والسنة ، ولسان العرب ، وأقاويل أهل العلم ، والاستنباط والاجتهاد ؛ أضف إليه فهم الواقع، والتبصّر بالأحوال القائمة والأحداث العامّة .
لسنا هنا لتوضيح المسائل التي بحثها أهل العلم حول أحكام التكفير – مع الأهمية المطّردة لهذا – والتي تكشف عوار المنهج القائم المفتونين بالتكفير فالمسألة مهمة تحتاج مزيدَ بحثٍ وتحقيق والمقام لا يتّسع ؛ ولكن لا أجدُ بُدّاً من ذكر كلام مفيد ، وتأصيل فريد يناسب ما نحن اليوم فيه ، ويثري ما نحاول أن نحتويه ، وهو مقتبس – بتصرف يسير- من حديث طويل حول ( تكفير الحكام ) للمحدّث الإمام محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – حيث قال :
ماذا تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلّمنا – جدلاً – أن هؤلاء الحكام كفارٌ كفر ردة ؟! ماذا يمكن أن تصنعوا وتفعلوا ؟
إذا قالوا : ولاء وبراء ؛ فنقول : الولاء والبراء مرتبطان بالموالاة والمعاداة – قلبية وعملية – وعلى حسب الاستطاعة ، فلا يشترط لوجودهما إعلان التكفير وإشهار الردة؛ بل إن الولاء والبراء قد يكونان في مبتدعٍ ، أو عاصٍ ، أو ظالم.
ثم أقول لهؤلاء : ها هم هؤلاء الكفار قد احتلوا من بلاد الإسلام مواقع عدة ، ونحن - مع الأسف - ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين؛ فما الذي نستطيع نحن وأنتم فعله مع هؤلاء ؟! حتى تقفوا أنتم – وحدكم – ضد أولئك الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار .
هلّا تركتم هذه الناحية جانباً ، وبدأتم بتأسيس القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة ، وذلك باتباع سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلّم- التي ربّى أصحابه عليها ، ونَشّأهم على نظامها وأساسها ؟
لا شك أن الطريق الصحيح هو ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدندن حوله ، ويُذكّر أصحابه به في كل خطبة : ( وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم )
ذلك لأننا نعلم حقائق ثابتة وراسخة يغفل عنها – أو يتغافل عنها – أولئك الغلاة ، الذين ليس لهم إلا إعلان تكفير الحكام ثم لا شيء ! ؛ وسيظلون يعلنون تكفير الحكام ، ثم لا يصدر منهم – أو عنهم – إلا الفتن والمحن .
كل هذا بسبب مخالفة هؤلاء لكثير من نصوص الكتاب والسنة ، وأهمها قوله- تعالى- : { قد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً }
إذاً ؛ لا بد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام الحق ، كما بدأ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ لكن لا يجوز لنا الآن أن نقتصر على مجرد التعليم فقط ، فلقد دخل في الإسلام ما ليس منه ، وما لا يمت إليه بصلة ، من البدع والمحدثات مما كان سبباً في تهدّم الصرح الإسلامي الشامخ ؛ فلذلك كان الواجب على الدعاة أن يبدؤوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه ؛هذا هو الأصل الأول .
وأما الأصل الثاني : فهو أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفّى .
ونحن إذا درسنا واقع الجماعات الإسلامية القائمة منذ نحو قرابة قرن من الزمان ، وأفكارها وممارساتها ، لوجدنا الكثير منهم لم يستفيدوا – أو يفيدوا – شيئاً يذكر ، برغم صياحهم وضجيجهم بأنهم يريدونها حكومة إسلامية ، مما سبب سفك دماء أبرياء كثيرين بهذه الحجة الواهية دون أن يحققوا من ذلك شيئاً ؛ فلا نزال نسمع منهم العقائد المخالفة للكتاب والسنة ، والأعمال المنافية للكتاب والسنة فضلاً عن تكرارهم تلك المحاولات الفاشلة المخالفة للشرع .
لعل فيما ذكرتُ مَقنعاً لكل مُنصف، ومنتهىً لكل مُتعسّف " أ.هـ
لكنّهم ما اقتنعوا بكلام هذا الإمام السّلفي ، ولا انتهوا عن الغلوّ في التكفير والتطرّف ؛ حتى صاروا فرقةً قائمةً على أركانٍ مميّزةٍ بالعنف والشّدة والترهيب والقتل بحقّ المخالفين لهم من المُسلمين ! ؛ الذين يعدّونهم مرتدين عن الدين ؛ وهم – في هذا كُلِّه – يعزون أعمالهم ومنهجهم إلى سلف الأمّة ! ؛ تلبيساً على الناس وتغريراً للشباب منهم فإنهم أبعد ما يكونون عن دعوة سلفنا الصّالح من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – والتابعين لهم بإحسان ؛ والتي ما كان فيها الشدّة والعنف والتكفير المُنفلت أساساً ولا أصلاً في نشْر دين الله – تعالى – أو الذّبّ عنه ، والسّلف من هذا بريء بريء ؛ فلا يصحّ لهم أيّ اسمٍ أو وصْفٍ يتعلّق بالسّلفيّة .. ! .
الحمد لله الذي بعث رسلَه مُبشرين ومُنذرين ، وهُدى ونوراً ورحمة للخلق أجمعين ، وجعل في كلّ زمانِ فترةٍ من الرّسلِ بقايا من أهل العلم ، يَدْعون من ضلّ إلى الهدى ، ويصْبِرون منهم على الأذى ، يُحيونَ بكتاب الله - عز وجل - الموتى ، ويبصّرون بنور الله أهلَ العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضالّ تائهٍ قد هَدوه.
فما أحسنَ أثرُهم على الناس وما أقبحَ أثر الناسِ عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة.
أهلُ السّنة أعلمُ النّاس بالحقّ ، وأرحمُهم بالخلْق – كما قال شيخ الإسلام ابنُ تيميّة – لأنهم أصحابُ سَيْرٍ على الأثر ، وذوو فقهٍ وفهم ونظر ، لا ينحرفون عن المنهج النبويّ الذي خطّه نبيّنا محمد – صلى الله عليه وسلّم – وعلّمه الأمّة ، وبيّنه لها : محجّة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك ، ولا ينجو – في الدنيا والآخرة – إلا متّبعٌ لها وسالك .
قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - : " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ .. " .
والنبيُّ - عليه الصلاة والسلام - مبلِّغٌ عن ربِّ العزة ،{ وما ينطق عن الهوى } ، وكل شيء أخبرنا بأنه سيقع ؛ فلا بدَّ من وقوعه ؛ فحصل اختلاف ٌ كثير ، وكان منه أنْ امتدت إلى صفاء ' المحجة البيضاء ' يدُ التبديل و التحريف ، والتشويه والتزييف ؛ سواءٌ كان من أعداء الدين ، أو من أهله ! ؛ من ( المبتدعة ) و ( أهل الكلام والفلسفة ) و ( الفرق ) الضّالة التي أبلغنا عنها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ وما أحدثته في دين الله تعالى .
ولذا كان المنهج الأنقى ، والمسلك الأرقى – في كلّ زمان ومكان - هو الذي يقوم على تصفية الإسلام مما ليس منه ؛ من عقائد باطلة و بدع ٍ وخرافات وغيره ! ؛ وكذلك تصفية الفقه الإسلاميِّ من الاجتهادات الخاطئة المُخالِفة للكتابِ والسُّنة ؛ ثمّ بعد هذا تربية المسلمين على ذلك الإسلام المُصفّى .
في العصر الحديث ظهرت دعوةٌ دينيّة راسخة تؤصّل لمنهج علميٍّ يقوم على إحياء مذهب السلف الصالح الأول في فهم الكتاب والسّنة ، وتصفية الدين الإسلامي من شوائب البدع والخرافات في المعتقدات والعبادات والمعاملات ، وكذلك الأقوال الفقهيّة الشّاذة ؛ ثمّ تربية الأمّة – بعد ذلك – على هذا الإسلام المُصفّى ؛ وهذا المنهج معروف - عند أصحاب هذه الدعوة – بـ ( منهج التصفية والتربية ) ؛ والذي قاد لواءه مُحدِّث العصر الإمام المجدّد محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ؛ والذي يعود إليه الفضل – بعد الله عز وجل – في الانتشار الواسع لهذه الدّعوة السّلفيّة في بلدنا العزيز الأردن وفي غيره .
إنّها دعوةُ النّاس إلى نور الإسلام الحقّ { بالحكمة والموعظة الحسنة } واللين والرّفق ، وتعليمهم أمْرَ دينهم وما به صلُح أوّلُ هذه الأمة في كلّ المجالات ، وكذلك هدايتهم إلى سبيل النجاة من فتن الدنيا وعذاب الآخرة بالعلم الصحيح والفقه السليم الذي يتبصّر أحوال الواقع وحقيقة الحوادث والنوازل والوقائع ، وأصحابُ هذه الدعوة – مع هذا كلّه – راصدون متربّصون لنتاج أصحاب الفهم السقيم والتّطرف والغلو المُبطلين للآثار ، وأهل الهوى والإغواء والجهل والضلال فيدفعونه بسيف الحجّة والدليل والبيان حِفظاً لبيضة الإسلام والسّنة والحقّ ورحمة للخلق .
إزاء هذه الدعوة السّلفية المباركة كان إرثُ الذين ضلّوا سبيل المؤمنين - سلفنا الأوّل - يتطاول بقرنه خلال الأمّة ، ويزرعُ راياته السّوداء الغاشمة في جسدها المُنهك ؛ فتفرّق المسلمون في دينهم ، وغشِيَهم ظلامُ الهوان والوهَن والوَهم ، وتفيئوا ظِلال الجهل والتّخلّف والنكوص عن إسلامهم النّقي حتى نَكَست في الأمم ، وتعمّق الجرحُ وما التأم ! .
لقد كان نبْتُ الخوارج الأُوَل منذُ قتْلِهم الخليفة عثمان – رضي الله عنه – أكبر بلاءٍ تجرّعه أهلُ الإسلام ، ولا يزال غُصّة في حلق الأمّة ومرضٌ عُضال يعتريها من حينٍ لآخر ؛ ولولا أنّ الله – تعالى – رَحِمنا بقطْع ما كان يظهر لهم من قرْنٍ لتعاظمت الويلات وتفاقمت النّكبات ؛ ذلك بأنّ فتنتهم قائمة على تكفير المسلمين – جماعاتٍ وأفراداً – وإخراجهم من الدّين ، وهذا أمرٌ شديد الخطورة وعند أهل التقى والفهم والنظر من المسائل المحذورة ، وله من التبعات والعواقب على المجتمعات المسلمة ما لا يُحْمد أو يَخْمد : كإزهاق الأنفس المعصومة من بارئها، ودمار الأوطان و فسادها وخرابها ، ويجرّ الفتنَ المُهلكة والمحنَ المُنهكة كما شهِد بعضُ تاريخ الإسلام .
وفي زمان غربة الدّين – هذا – الذي عمّ فيه الجهل بالسّنة وكاد الناس لا يعرفون حتى عنوانَها ، وتفشّي البدع بأنواعها ونُشور ألوانَها ؛ كان الجامعون لشبهات التكفير المُستقاة مِن جِراب الخوارج يُراودون الشباب المسلم عن عقولهم بالأفكار التي تُناقص منهج أهل السّنة وطريقتهم في تنزيل الآيات القرآنيّة على المسائل المتعلقة بتكفير الأعيان والمجتمعات ، واستمالة عواطفهم الإسلاميّة الجيّاشة نحو مفاهيم الجهاد دون اعتبار الأصول الفقهية الضابطة لهذا العمل العظيم من أعمال الشريعة ، ولا الالتفات لشروطه ووسائله التي تجعله موافقاً للكتاب والسّنة ومُحقّقاً لعزّ الأمّة ومَنَعتها .
وأمرٌ آخر يميّزهم وهو استمساكهم بالدّلالة الظاهريّة للنصوص من الكتاب والسّنّة ، والمتشابه من أقوال العلماء ؛ودون النظر والتحقيق – عند إطلاق حكم التكفير – في الأسباب والشروط والضوابط الشرعيّة التي قرّرها المحققون من أهل العلم وفصّلوها في كتبهم ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " وليس لأحد أن يكفّر أحداً من المسلمين وإنْ أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجّة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يُزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة "، وقال الإمام ابن عبد البر في ( التمهيد ) : " فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أنّ كلّ من ثبت له عقدُ الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً فاختلفوا بعدُ في خروجه من الإسلام ؛ لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجةً ، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبُه - وإن عَظُمَ - من الإسلام وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا إن اتفق الجميع على تكفيره ،أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة " .
أمّا أخطرُ ما في منهجهم فيتعلّق بالميل – غالباً – نحو طرح المسائل ذات العلاقة بتكفير الحكام والتركيز عليها ؛ أو إثارة شبهات التكفير حوله ؛ ومعلومٌ أنّ تكفير الحكام هو أشدّ خطراً من تكفير غيرهم من الأعيان – وفي كلّ خطرٌ بادٍ للعيان- ؛ وذلك لما فيه من التحريض على التمرد والعصيان ، وما قد يتبعه من حمل السلاح ، وسفك الدماء ، وفساد البلاد والعباد وتدمير البنيان ! .
عند التفكير في منهج أولئك الغلاة المفتونين بتكفير المسلمين – حكاماً ومحكومين – نجدهم ملتزمين خطوطاً متشابهةً ؛ لا يَحيدون فيها عمّا رسخ في عقولهم ، واستقر في نفوسهم من ( تقارير التكفير ) ، ولا هم يُجيدون مقارعة الأدلة والحجج عند المخالفين ، أو الأقوال الناقضة لمنهجهم والتي تصدر عن الأئمة العارفين ؛ وغالباً ما يقابلونها بتضعيف أسانيدها ، أو بالتأويلات الفاسدة لها ؛ ولو خالفوا – في هذا وذاك – أهلَ الفقه والدراية، وأصحابَ الحديث والرواية .
وليس هذا فحسب ؛ بل تراهم يرمون المخالفين لهم من أهل العلم بتهم التمييع ، والإرجاء ، والتخاذل ، أو وصفهم بعلماء السلاطين ؛ بلا علم وتفكّر ، أو فهم وتبصّر ؛ بل بالجحود والتنكر ، والجمود والتكبّر ؛ وبلا اعتبار – أيضاً – لموافقة هؤلاء العلماء لمن سبقهم من جهابذة العلم المتقدّمين ؛ فيطعنون فيهم من حيث لا ينتبهون ؛ لكنّه التذرّع بضروريات ( الولاء والبراء ) في دين الإسلام ، والتسرّع بإطلاق الأحكام ؛ وهم بهذا لا يعلمون أنّ حكم التكفير كسائر الأحكام الشرعيّة ؛ مردّه إلى الله – تعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم - ، ومسائله تحتاج إلى التحرّي والتحقيق، والتحرير والتدقيق ؛ وإذ الأمر كذلك فينبغي – حتماً – أن يتولى بحثها من كان عالماً بالكتاب والسنة ، ولسان العرب ، وأقاويل أهل العلم ، والاستنباط والاجتهاد ؛ أضف إليه فهم الواقع، والتبصّر بالأحوال القائمة والأحداث العامّة .
لسنا هنا لتوضيح المسائل التي بحثها أهل العلم حول أحكام التكفير – مع الأهمية المطّردة لهذا – والتي تكشف عوار المنهج القائم المفتونين بالتكفير فالمسألة مهمة تحتاج مزيدَ بحثٍ وتحقيق والمقام لا يتّسع ؛ ولكن لا أجدُ بُدّاً من ذكر كلام مفيد ، وتأصيل فريد يناسب ما نحن اليوم فيه ، ويثري ما نحاول أن نحتويه ، وهو مقتبس – بتصرف يسير- من حديث طويل حول ( تكفير الحكام ) للمحدّث الإمام محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – حيث قال :
ماذا تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلّمنا – جدلاً – أن هؤلاء الحكام كفارٌ كفر ردة ؟! ماذا يمكن أن تصنعوا وتفعلوا ؟
إذا قالوا : ولاء وبراء ؛ فنقول : الولاء والبراء مرتبطان بالموالاة والمعاداة – قلبية وعملية – وعلى حسب الاستطاعة ، فلا يشترط لوجودهما إعلان التكفير وإشهار الردة؛ بل إن الولاء والبراء قد يكونان في مبتدعٍ ، أو عاصٍ ، أو ظالم.
ثم أقول لهؤلاء : ها هم هؤلاء الكفار قد احتلوا من بلاد الإسلام مواقع عدة ، ونحن - مع الأسف - ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين؛ فما الذي نستطيع نحن وأنتم فعله مع هؤلاء ؟! حتى تقفوا أنتم – وحدكم – ضد أولئك الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار .
هلّا تركتم هذه الناحية جانباً ، وبدأتم بتأسيس القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة ، وذلك باتباع سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلّم- التي ربّى أصحابه عليها ، ونَشّأهم على نظامها وأساسها ؟
لا شك أن الطريق الصحيح هو ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدندن حوله ، ويُذكّر أصحابه به في كل خطبة : ( وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم )
ذلك لأننا نعلم حقائق ثابتة وراسخة يغفل عنها – أو يتغافل عنها – أولئك الغلاة ، الذين ليس لهم إلا إعلان تكفير الحكام ثم لا شيء ! ؛ وسيظلون يعلنون تكفير الحكام ، ثم لا يصدر منهم – أو عنهم – إلا الفتن والمحن .
كل هذا بسبب مخالفة هؤلاء لكثير من نصوص الكتاب والسنة ، وأهمها قوله- تعالى- : { قد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً }
إذاً ؛ لا بد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام الحق ، كما بدأ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؛ لكن لا يجوز لنا الآن أن نقتصر على مجرد التعليم فقط ، فلقد دخل في الإسلام ما ليس منه ، وما لا يمت إليه بصلة ، من البدع والمحدثات مما كان سبباً في تهدّم الصرح الإسلامي الشامخ ؛ فلذلك كان الواجب على الدعاة أن يبدؤوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه ؛هذا هو الأصل الأول .
وأما الأصل الثاني : فهو أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفّى .
ونحن إذا درسنا واقع الجماعات الإسلامية القائمة منذ نحو قرابة قرن من الزمان ، وأفكارها وممارساتها ، لوجدنا الكثير منهم لم يستفيدوا – أو يفيدوا – شيئاً يذكر ، برغم صياحهم وضجيجهم بأنهم يريدونها حكومة إسلامية ، مما سبب سفك دماء أبرياء كثيرين بهذه الحجة الواهية دون أن يحققوا من ذلك شيئاً ؛ فلا نزال نسمع منهم العقائد المخالفة للكتاب والسنة ، والأعمال المنافية للكتاب والسنة فضلاً عن تكرارهم تلك المحاولات الفاشلة المخالفة للشرع .
لعل فيما ذكرتُ مَقنعاً لكل مُنصف، ومنتهىً لكل مُتعسّف " أ.هـ
لكنّهم ما اقتنعوا بكلام هذا الإمام السّلفي ، ولا انتهوا عن الغلوّ في التكفير والتطرّف ؛ حتى صاروا فرقةً قائمةً على أركانٍ مميّزةٍ بالعنف والشّدة والترهيب والقتل بحقّ المخالفين لهم من المُسلمين ! ؛ الذين يعدّونهم مرتدين عن الدين ؛ وهم – في هذا كُلِّه – يعزون أعمالهم ومنهجهم إلى سلف الأمّة ! ؛ تلبيساً على الناس وتغريراً للشباب منهم فإنهم أبعد ما يكونون عن دعوة سلفنا الصّالح من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – والتابعين لهم بإحسان ؛ والتي ما كان فيها الشدّة والعنف والتكفير المُنفلت أساساً ولا أصلاً في نشْر دين الله – تعالى – أو الذّبّ عنه ، والسّلف من هذا بريء بريء ؛ فلا يصحّ لهم أيّ اسمٍ أو وصْفٍ يتعلّق بالسّلفيّة .. ! .
تعليقات القراء
أكتب تعليقا
تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه. - يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع |
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |