إنعاش ذاكرة الأمة .. ساطع الحصري نموذجا"


في فترة الانحطاط الفكري وتدني مستوى الخطاب العربي الذي اصبح مرعوبا ومتزلفا وانعدم فعاليته في قيادته للجيل وللمشهد المعاصر من حياة الامة المنهكة والمتعبة ببعضها البعض وبأعداء متغطرسين، يتعاملون معها كفريسة لاحول لها ولا قوة، ناهيكم عن تخلف الخطاب الديني وتناقضة مع الحق والحقائق والحقيقة، وجدت المناسب محاولة إنعاش ذاكرة شباب الامة بشخصيات مؤثرة من بني جلدتها، ومنهم من بعثت الامل فيها بالعمل النافع والفكر لفترة زمنية مفصلية من حياتها كأمة، بثوابت وحقائق تشكل عناصر ومقومات وحدتها التي حلم بها الآباء والأجداد، ومازلنا نحلم بها وسيحلم بها أبنائنا واحفادنا الى ان تتحقق يوما ما بعون الله وتوفيقه، وبجهد جهيد من المخلصين من النشء الذي يكتسب المعرفة وناصية التكنولوجيا والإيمان بوحدة هذه الامة، لتتطابق حدودها مع امتداد لغتها واملها التي حلمت به طويلا.

وهذه الشخصيات مختارة من الماضي القريب، في مقدمتها وقع اختياري على الاستاذ "ساطع الحصري" وهو المفكِّر القومي المعروف، والمؤثِّر في جهده وبحثه وممارسته العملية، وأحد الروّاد الأوائل للفِكر القومي العربي، وأهم مُنظِّريه.

وُلد ساطع الحصري في مدينة صنعاء اليمنيَّة، في العام 1880م، من أبويين سوريّين قدما من حلب، كان والده محمد هلال الحصري من أهالي مدينة حلب في شمالي سورية، رئيساً لمحكمة الاستئناف في صنعاء، أما والدته فهي فاطمة بنت عبد الرحمن الحنيفي.

تعود أسرة ساطع الحصري إلى أصول حجازيَّة؛ نال والده الإجازة في علوم الشريعة والعربية من الجامع الأزهر بمصر، فعين قاضياً في مدينة دير الزور ثم في مدينة حلب السوريّتين، وأخيرًا كما ذكرنا سالفًا عين رئيساً لمحكمة استئناف ولاية اليمن، ثم انتقل بعدها إلى أضنة، ثم إلى أنقرة من بلاد الأناضول، فإلى طرابلس الغرب في ليبيا، ثم أُعيد ثانية إلى اليمن، فإلى قونية في تركيا، ثم رجع إلى طرابلس الغرب.

في العام 1893م أتمَّ ساطع الدراسة الابتدائية النظاميَّة، وبعث به والده إلى القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية آنذاك ليتلقى علومه، فتركته الأسرة عندما سافرت إلى ليبيا تلميذاً داخلياً في هذه المدرسة.

تخرج من المدرسة الملكية الشاهانية بتفوق وعمل بعدها مدرساً في عدد من الأقسام الأوروبية من الإمبراطورية العثمانية. ثم انتقل إلى العمل الإداري فعُين قائم مقاماً لولاية قصوة على حدود النمسا- بلغاريا. وبعد وقت عاد إلى القسطنطينية وأنشأ مجلة تربوية.

عبقريَّة العِلـــــــــــم:
لم يرضَ ساطع لنفسه الاكتفاء بالمحاضرات النظاميَّة التي تُلقى عليه، وبالكتب المحدَّدة المطلوبة منه؛ فقد كان شديد الرغبة في المعرفة والتقصّي، محباً للدراسة والتحصيل، والعلوم الرياضيَّة، فاستفاد من كل ما تقع عليه يده من كتب ومجلات يبحث فيها، مستعيراً من أصدقائه طلاب مدرستي الهندسة والأركان الكتب المقرَّرة عليهم، وبدأ يُعرَف بقدرته على حل الصعب من مسائل الرياضيات العالية، فأطلق عليه رفاقه اسم "آرشيمدس"، واشتهر بهذا الاسم مدة طويلة من الوقت.

كما أحب الحصري العلوم الطبيعيَّة، واستهواه تشريح الحيوانات وتحنيطها.

استطاع ساطع الحصري أن يكمل دراسته العالية في المدرسة الملكية، في العام 1900م، بتفوُّق ملحوظ.

تربَّع ساطع الحصري بما قام به من تبديل في نظم التربية والتعليم، وبما نشره من مؤلفات ومقالات، على مكانة عاليَّة في الدولة العثمانيَّة، وتمتَّع بمركز مرموق، وانتُخِب عضواً في "جمعية المطبوعات العثمانيَّة" منذ يوم تأسيسها، وكان رئيساً لمؤتمر المطبوعات، وتُعتبر هذه الوظيفة من آخر المراكز التي تبوأها ساطع الحصري في العهد العثماني، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918.

كلَّفتهُ الحكومة العربية التي تشكلت في سورية بعد الانفصال عن الدولة العثمانية، بوظيفة مفتشاً عاماً للمعارف، ثم مديراً عاماً للمعارف في سورية، ويوم أعلن المؤتمر السوري استقلال سورية، وقامت أول حكومة عربيَّة دستوريَّة، أُختير الحصري وزيراً للمعارف فيها، كما أصدر مجلة باسم "التربية والتعليم"، نشر فيها عدَّة مقالات تربويَّة ووطنيَّة.

مناصبــــــــــــــــــه:
عندما احتل الفرنسيون دمشق، غادر الحصري سورية متنقلاً بين العواصم الأوروبية، وبعد أن توج فيصل ملكاً على العراق، استدعى ساطع الحصري، الذي كان وقتها في مصر يطّلع على الأوضاع التربويَّة والتعليميَّة فيها، ليعمل مستشاراً لشؤون المعارف في الدولة العراقيَّة الجديدة، حيث تسلم طيلة ما يقارب العشرين عاماً عدة مناصب تربوية في بغداد ؛ كانت:-
ـ معاون وزير المعارف
ـ مدير المعارف العام
ـ أستاذ علم التربية في دار المعلمين العالية في بغداد
ـ مراقب التعليم العام
ـ عميد كلية الحقوق ومدير الآثار القديمة
ـ مدير الآثار القديمة ومراقب التربية والتدريس العام، وأخيراً مدير الآثار العامة حتى عام 1941.

ثم كلَّفته الحكومة السوريَّة، في العام 1945 - في أعقاب جلاء الجيش الفرنسي عن سوريا - بمهمة الإشراف على إعادة تنظيم المعارف، فعينته مستشاراً فنياُ لشؤون التربية والتعليم.

وبعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، اضَّطر ساطع الحصري إلى مغادرة العراق فرحل إلى لبنان وأقام فيها مدَّة أربع سنوات.

دعتهُ وزارة المعارف المصريَّة، في العام 1947، ليعمل أستاذاً في معهد التعليم العالي بالقاهرة، وكلَّفته بمنصب المستشار الفني للإدارة الثقافيَّة في جامعة الدول العربيَّة، ثم استلم إدارة معهد الدراسات العربية العالية الذي قررت جامعة الدول العربية بمساعيه افتتاحه في القاهرة، كما عُين فيه أستاذاً للقومية العربية، إلا أنه لم يستطع تطبيق جميع ما يدين به من آراء، فاستقال وتفرغ للبحث والتأليف.

عاد الحصري إلى العراق في العام 1965، بعد أن أُعيدت إليه الجنسيَّة العراقيَّة، وظلَّ فيه حتى وفاته ، في العام 1968.

تركز اهتمام الحصري على اللغة العربية، منطلقاً من كونها روح الأمة وحياتها، والتاريخ العربي لأنه ذاكرة الأمة وشعورها، ولم يغفله ذلك عن ضرورة الاهتمام بالعلوم الحديثة من رياضية وطبيعية لتنمية العقل، وإزالة ما علق في العقل العربي لقرون عدة من الإغراق في الكلاميات والخياليات، مشدداً على توسيع آفاق المعرفة والإدراك.

نظر الحصري إلى التراث على أنه منطلق للسير قدماً نحو المستقبل في سبيل تحقيق الأهداف القومية، وأنه يجب البناء على العناصر الإيجابية في الماضي للتخطيط نحو المستقبل والسير نحوه، ويرى أن الماضي لا يجوز أن يكون هدفاً يتم التوجه نحوه بغية العودة إليه، بل يجب جعله نقطة استناد في الاندفاع إلى المستقبل.

كان في تاريخ الحصري العديد من الإصلاحات التربوية البارزة التي اضطلع بها دعوة وتخطيطاً وتنفيذاً وإشرافاً؛ كان من أهمها:-
- في تركيا: تغيير مناهجها وخططها التعليمية، إيفاد بعثات طلابية عثمانية إلى معهد جان جاك روسو في جنيف لتعلم أحدث أساليب التربية والتعليم، إدخال علم النفس لأول مرة إلى دور المعلمين التركية بغية إعداد المعلمين للعملية التربوية، إصدار مجلة تربوية، تأسيس مدارس حديثة، وتأليف عدد من الكتب التعليمية باللغة التركية.

- في سورية: اهتم بتعريب التعليم، تأسيس المجمع العلمي العربي، إعداد معجم عربي، وضع نظام للتعليم، وضع تصور لهيكلية وزارة المعارف، افتتاح المعهد الطبي العربي، افتتاح معهد الحقوق، توثيق الصلات الثقافية بين سورية والبلدان العربية، إحداث المعهد العالي للمعلمين، إصدار مجلة تربوية، وتأكيد طرائق التدريس العلمية من استنتاجية واستقرائية.

- في العراق: تطهير مناهج التربية من رواسب الثقافة الإنكليزية، إحياء الروح العربية وبث الفكرة القومية في نفوس الناشئة، تشجيع البعثات الأثرية وإنشاء المتاحف ونشر الدراسات المتعلقة بالآثار العربية، إصلاح نظام التعليم الابتدائي، الاهتمام بمناهج الجغرافية والتاريخ، إنشاء مدرسة عربية إلى جانب كل مدرسة أجنبية وتيسير الدخول إليها، السعي لاستقدام الكفاءات من خارج العراق، وتدريس الأناشيد الوطنية والقومية.

- في السعودية: دراسة أحوال المعارف ووضع تصور عن إصلاحها بناء على دعوة وجهتها إليه الحكومة السعودية والجامعة العربية عام 1954م.

- في مصر: إصدار الحوليات الثقافية، إنشاء متحف الثقافة العربية، إنشاء معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة عام 1953، وقد تحول المعهد إلى عهدة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بعد أن استلمت الأنشطة الثقافية والتربوية التي كانت تقوم بها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية منذ عام 1970م.

يعتقد المرحوم ساطع الحصري بعبقريَّة، وإخلاص الإنسان القومي العربي عندما كتب: " أعتقد بأن وحدة التاريخ واللغة ستعمل عملها في العالم العربي حتماً، وستتطوَّر الأمور من جراء ذلك تطوراً ينتهي إلى اتحاد الأقطار العربيَّة، عاجلاً أو آجلاً".

خلف لنا الحصري الكثير من المؤلفات السياسيَّة، والتربويَّة، والتاريخيَّة، والاجتماعيَّة؛ إلا أن فكرة القوميَّة العربيَّة والدفاع عنها كانت الهاجس الرئيسي في كل ما كّتَب.

-وفاة المفكِّر المميَّز، ساطع الحصري
في العام 1965م، عاد ساطع الحصري إلى العراق، وتوفي في بغداد في 23 أكتوبر/كانون الأول 1968م، وصلى على جنازته الحاج معتوق الأعظمي في جامع أبو حنيفة، ودفن في مقبرة الخيزران، في الأعظميَّة، قرب مرقد الشيخ رضا الواعظ.

هكذا عاش، وهكذا أبدع، ومما قاله وخلده من مقولات خالدة:-
-قلبي هو وطني
-كل مكان أنت فيه هو وطنك !
-الغنى في الغربة وطن... والفقر في الوطن غربة
-لم يعد الصمت ممكنا... و... إذا لم تعجبك حياتك غيَّرها".

*وطاب صباحكم بنور الله الكريم وضياءه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات