كان رحمه الله ..


أوصيكم وإياي بتقوى الله, ومحاولة رحمة الوطن وحمايته, وعدم تكريمي ميتا.
هذه وصيتي...تصبح سارية المفعول بعد أن أصير الى ما صار اليه السلف, وحتى مع احتمال أن آتي من الخوارق والتميز خلال حياتي ما لم يذكره أحد الا بعد النفس الأخير منها.
واستباقا لكل من تسول له نفسه أن يتعجل بالقول: وعليش بدنا نكرّمك؟
فإنني هنا لا أتحدث عن نفسي بل عن كل أردني غادر هذه الدار عن جهد او معاناة او فن او فكر يُنتفع به, ولم تعيره دولتنا العتيدة وحكوماتنا المجيدة, وأجهزتنا وهيئاتنا العديدة, اهتماما أو رعاية أو تذكّرا او تكريما وهو في عز عطائة وزخم إبداعه, وقلبه ما زال ينبض بحب الوطن والأداء له, أكثر من ثمانية وسبعين نبضة في الدقيقة, بحرارة حب وحس للأرض ما زالت عند السابعة والثلاثين وما فوق.
حقيقة الأمر وما نعيشه مكررا, أن الأرادنة يعيشون نكبة رسمية مؤلمة ومقززة وتبعث على الغثيان والسؤال: لماذا هذا الغياب الكلي للرسمية الأردنية عن مبدعينا وفنانينا ومن قدموا ويقدمون للوطن كل الوطن, أرضا ودولة وشعبا ونظاما وفنا؟
ولماذا كُتب على كل من حمل الأردن في كلمته ولحنه وصوته ومشاعره الفنية, ومن أتحف جمهوره من شعبنا بالكثير من العطاء والأداء المحترم, أن يعيش في كبد؟ ويموت بعيدا عن الرغد؟ فاقدا لروحه ونفسه قبل الجسد.
لماذا تتساقط عناقيد الفن الأردني الجميلة البهية ذات المذاق الوطني المتميز, من عرائشها دون أن تجد يدا واحدة تتلقف ضعفها وتحنو على عمرها وتعالج مرضها وتتكفل بفسائلها المهيضة؟
ولماذا يموت الفنان اسماعيل خضر وغيره, رحمهم الله, ولم يأخذوا منا غير, رحمة الله عليه؟ وربما بعض الكلمات القليلة اللطيفة المسبوقة بالفعل الماضي الناقص: كان...
ولماذا تسكت حكوماتنا المتعاقبة على أن يسكن بين ظهرانيننا من الفنانين وأصحاب الرسالة الأولى لحضارة الشعوب والأمم, من كدّه العياء والمرض وأعجزه عن تحصيل لقمة عيشه, ناهيك عن كُلف طبابته ورعايته الصحية في كل مراحلها؟
لماذا نقبل أن يعيش الكثير ممن اضحكونا كثيرا وأبكونا كثيرا ورددنا أغنياتهم الوطنية بشغف, على الحسنات وكرم الأجواد وعوائد وظائف لا طاقة لهم بها من حراسة وعمال قهاوي وتنظيفات وغيرها؟
لماذا تأكلونهم لحما وترمونهم عظما ايها السيدات والسادة؟
رفدوا إذاعاتكم وتلفزيوناتكم وسهراتكم ومهرجاناتكم وزهوكم بالفن والتعب والأداء المتميز المحترم, على مدى عقود كثيرة, ولما تحولت الأيام والموضة تحولتم, فأفستحتم للهبوط والسقوط والفن الرذيل الرزيل مكانهم دونهم, ورفعتم ودعمتم وبقوة وبكلف عالية من خزينة الدولة واتصالاتها, شبابا ربطوا خصورهم للهز والتفاهة والصراخ بما لا يعون او يفهمون, وأغدقتم عليهم بالعميم من العقود والخير, على حساب الفن الرفيع من الزمن الجميل ورواده الأوائل الذين ما رقصوا الا للوطن والفن.
أما التكريم, وما أدراك ما التكريم, فقد غاب عن عالم من يستحقه فعلا ممن واكبوا الأردن الحديث منذ نعومة نشأته او بعدها بقليل, وإن جاء أحيانا, فليس الا بصورة ميدالية او شهادة لغو مكرور لا تسمن ولا تغني من جوع, في حين فتحت للسقط وأشباه الفنانين واللمم من كل صوب, ابواب الاستديوهات والعقود الحصرية الغالية الثمن ومدرجات المسارح والمهرجانات المجزية البدل.
وعندما أتحدث عن التكريم, فلا أعني التكريم المعنوي, بل التكريم المواكب لخطوات عملية مادية ملموسة تواكب حياة الفنانين وفترات ضعفهم العمرية والصحية, كحقوق الضمان والتأمين الصحي والسكن الكريم ودراسة الأبناء وغيرها من متطلبات الحياة والممات, ودون النظر الى هذه الحقوق كمكرمات او هبات خيرية من أحد.
نريد طحنا يكفي الفنانين شر العوز وذل الحاجة, ولا نريد جعجعة تزيد من معاناتهم وتعري ضعفهم, ونرفض ان تسلم دروع ومداليات التكريم لأبنائهم وأحفاده, مع اللغو المعهود: كان رحمه الله...
العيب كل العيب ان ينتقل أحدهم الى رحمته تعالى, ولا يجد ورثته خلفه ما يدفنه به ويقوم بتكلفة عزائه, بعد أن "مرمطه" المرض وذاق الأمرّين لتأمين ثمن علاجه الأخير.
الأمم يا حكومتنا, بثقافاتها وفنها, نثرا وشعرا وغناء وموسيقى وتمثيلا ورسما وإبداعا من كل صنف, والتاريخ أكبر الشواهد على أن الفن الرفيع وأهله, هما من يرفع الأمم ويشكل نواة الحضارات الراقية, وما سقط الفن وأهله ورعاته الا وقد أفلست وهوت معه الأمم والحضارات.
تناقلت المواقع الإخبارية أخيراغضب ملك البلاد من أن أحدا لم ينفذ تعليماته بخصوص دعم الفن والفنانين الأردنيين بشكل يليق بهم وبما قدموا للوطن. فهل آن الأوان بأن تقوم الحكومات بواجبها التنفيذي كما يرى القانون, دون انتظار إرادة ملكية خاصة تعرفهم بواجبهم وتأمرهم بالقيام به؟




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات