بارودة جدي


كم عفوية تلك الاحلام التي غفت عليها قلوب صادقة و أمنت بها عقول متواضعة ...كم تمنيت أن لا تنتهي تلك المسامرات التي حوت قصص غريبة كثرعلى بعض تفاصيلها الاختلاف مثلما عمَ في نهايتها الاتفاق ...كنا صغارًا وكنا ننصت خاشعين لحديث تبادله الاعمام سردوا فيه بعض مذكراتهم الشخصية وأجزاءاً من بطولات اخوالهم وخلانهم... كنا نراقب تعابير وجوههم واجسادهم التي عبَرت عن احداث مغامراتهم اكثر مما اتقنتها السنتهم ...وكانوا كلما ابتعد احدهم عن السرب ارجعه الاخر (بنحنحة) او قحة قوية ....وكلما أخطأ احدهم بذكر اسم او توقيت حدث عدل الاخر بكل أدب (والله اعلم انه كان اسمه هيك او خاف الله انها كانت الساعة 8)....برغم كل الصراعات الفردية في تولي دور البطولة و كل القصص المتعددة الاهداف والمعاني الا انهم حين كان يأتي تداخل (متعمد) من احدهم بعد ان يجلس متربعا يرفع فيه اصبعه الشاهد ويقول: بس بارودة جدي ما في زيها... كانوا جميعا يلتزمون الصمت وتتحد قبلتهم نحو حائط اسمنتي علق عليه سجادة صلاة وفوقها بارودة حبلى يراودها المخاض كلما حنَت الى الغرب.......

تلك الصورة التعبيرية قد لخصت تاريخاً في حياتنا وكذلك ايماناً عميقاً بأنه لن تكون على الارض بارودة مثل بارودة جدي ...في ذلك الوقت لم نهتم بعيار البارودة ولا بلد المنشأ ولا حتى كيف حصل عليها, الشيء الوحيد الذي كان يلهمنا جميعاً انه قتل بها ثلالة اعداء حاولوا اغتصاب ارض اخوه...
وتمر الايام وتتكالب علينا السنون وتضيع تفاصيل قصص الاعمام مع جبروت السنين وتزاحم الازلام, وتختفي بارودة جدي ....ومع محاولاتنا الجادة في البحث المستمر عنها ومع شكنا بان احد الاعمام قد استولى عليها (لطشها) فقد باءت جميع جهودنا بالفشل في العثور عليها ...كانت جدتي صاحبة الغليون مثيرة للاهتمام , تهمس تارة, تبكي تارة , تبتسم ابتسامة استهزاء لم تهزنا تلك الابتسامة مثل ما هزنا ضعفنا بمعرفة ابعادها , ولكننا في النهاية استطعنا (الاستعانة بصديق) علنا نعرف مكان البارودة او سر ابتسامة جدتي ... وكان الصديق (ختيارة صاحية) اخبرناها بالقصة ثم ذهبت لجدتي لتستقصي الخبر : وحتى لا نثقل عليها رجعنا اليها بعد فترة من الزمن علنا نجد الدواء لعليل الرجاء , وبالفعل قادتنا قلوبنا متحمسين لصديقتنا العزيزة متلهفين لنسمع ما جاءت به , وفي برهة رجعنا الى طفولتنا ,وكأن (دوخة) و (لفة راس) اصابتنا حين رأينا صورة (طبق الاصل) من ابتسامة جدتي على شفاه تلك العجوز ولكنها اعقبتها بكلمات( اقعدوا يا هبايل).... جلسنا وأمرت من حولها حين لم نرى احد حولها بأبريق شاي ...تنهدت ثم قالت بجمل سريعة ( البارودة اللي كانت معلقة مش بارودة جدكو) بارودة جدكوا صادروها الانجليز من زمان ...البارودة المعلقة( يا جدة هاي) بارودة السمسار (فلان الفلاني) اللي ذبحه جدكو..

سنين مضت ولم نستطيع ان نذكر (طاري ) البارودة ...ماتت جدتي وماتت الصديقة ....ولكننا استطعنا على الاقل من معرفة السمسار صاحب البارودة...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات