نهاية الخوف والطغيان


على مر العصور كان الظلم والطغيان وإستعباد الإنسان لأخيه الأنسان، مسار مظلم في تاريخ البشرية جمعاء، مليء بالجماجم والوحشية وسفك والدماء، يتخلله من حين لأخر منارات ومحطات، تتمثل بالأنبياء والرسل والمصلحين، وشيء ما في ضمير الإنسان يدفعه في أحلك الظروف للوقوف بشجاعة وتفانٍ وإثار، للدفاع عن الحق والعدل في مواجهة الظلم والطغيان. وقد صور القرآن الكريم هذه الحالة بأبدع صورة وأجزل عبارة بقوله تعالى "وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّىِ جَاعِلٌ فىِ اْلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوَاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ اْلدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنّىِ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" سورة البقرة 30، وكان وما زال الطغاة يستعبدون الناس بالخوف والجوع، بينما يبقى الأمن والطمأنينة غاية كل إنسان ومجتمع، ولكنهما لا يتحققان أبداً إلا من خلال الحرية التى هي دوماً مطلباً صعب المنال، تؤخذ ولا تمنح وثمنها كما قال الشاعر "وللحريةِ الحمراءِ بابٌ = بكل يدٍ مدرجةٍ يُدقُ"،وتبقى الكلمة الخالدة لأمير المؤمنين عمر الفاروق"متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحراراً" تُرعد وتجلجل في أسماع الطغاة تهديداً ووعيداً، وتلامس شغاف قلوب المستعبدين في ألأرض إستنهاضاً وحثاً وتأنيباً.

ورغم ان الخوف غريزة فطرية في الأنسان، تظهر بوضوح منذ طفولته المبكرة، سعياً لحفظ الحياة والدفاع عن النفس بشكل عفوي، إلا أن هذه الغريزة تصبح مرتبطة قوة وضعفاً بحجم الثقة بالنفس التى توفرها عناصر أساسية ثلاث، هي النمو الجسدي والنمو العقلي والمحيط الإجتماعي أو البيئى.

في عالمنا العربي نجحت أنظمة القهر والإستبداد على إمتداد أكثر من سبعة عقود في زرع الخوف والرعب في عقول وقلوب مواطنيها من أجل تعزيز سيطرتها وإستمرارها في الحكم، نجحت هذه الأنظمة في تحويل الخوف الطفولي الغريزي إلى خوف وأع مستقر في وجدان الفرد والمجتمع، وأصبح من الحكمة والعقل أن تخاف وان تطيع وأن تغلق فمك "لأن الحيطان لها أذان " "وان زوار الفجر يهددون حرمة بيتك وحتى حجرة نومك ""وأنه ليس هناك من يحميك أو يدافع عنك إذا ما وقعت في أيادي زبانية النظام "وأن جسمك يا مسكين لن يحتمل صنوف العذاب المستورد أو المنتج محلياً" "وأن أُسرتك وعائلتك سيلاقون كل أنواع المذلة والهوان، وأنك تصرخ في واد أو تنفخ في قربة مثقوبه كما تقول الأمثلة العربية، وأن هذه الأنظمة أبدية وتتمتع بالحماية الدولية، وأنك مهما حاولت أو قاومت فستذهب جهودك هباءً وتبقى نكرة في قبرك أو منسي في سجنك، تلاحقك وتلاحق أسرتك إتهامات الخيانة والعمالة والعار او الجنون والإنتحار" لقد نجح النظام الرسمي العربي بهذه التدابير والوسائل في زرع الخوف والجبن في كيان الفرد والمجتمع، في مختلف أقطار الوطن العربي. وبدلاً من أن ينجح النظام الرسمي العربي في تحقيق التنمية أو تحرير فلسطين المحتلة، فقد نجح في صنع أجهزة أمنية قمعية بلغت من الوحشية والقسوة، أنْ تهدد أمريكا معتقلي غوانتينامو بتسليمهم لهذه الأجهزة في أوطانهم الأصلية إذا لم يتعاونوا معها!!!، فيا لها من مأساة يندى لها جبين كل عربي غيور.

لقد إستغل النظام الرسمي العربي الجيوش العربية وأجهزة الشرطة والأمن والمخابرات العامة في قهر وإذلال وإخضاع الشعوب العربية، فبدلاً من أن تكون مهمة الجيوش حماية الوطن وحدوده وأرضه أصبحت مهامها إذلال المواطن وجلبه إلى بيت طاعة النظام، وأصبحت الوظيفة الأساسية لأجهزة الأمن هي زرع الخوف والرعب في قلوب المواطنين وتهديد أمنهم بدلاً من حمايتهم، وصدق على هذه الأجهزة قول الشاعر (أُعلمهُ الرمايةَ كل يوم = فلما إشتد ساعده رماني) لأن تأسيس وتجهيز وتغذية جميع هذه الأجهزة كان وما زال وسيبقى من أموال الشعوب العربية وقوت يومها، وكان المفروض والواجب أن يكون ولاء هذه الجيوش والأجهزة الأمنية للشعوب وحمايتها والدفاع عنها، وليس سياطاً وزبانية للأنظمة القهرية المستبدة ضدها.وكان المفروض ان مهام الجيوش وقوى الأمن في العالم العربي –أُسوة بما هي علية في الدول المتحضرة- أشبه ما تكون بمهام حارس العمارة وليس مالكها، وخادم سكانها وليس سيدهم، وملتزم بأمرهم وليس متسلطاً عليهم.

ومن هنا فإن القداسة الوهمية التي خلعتها الأنظمة العربية على جيوشها المهزومة أمام العدو الخارجي، وأجهزتها الأمنية الأخرى الفاشلة في تحقيق الأمن الداخلي والسلم الإجتماعي، تصبح قداسة لا أساس ولا مكان لها، لأن قداسة الجندي يفرضها إستشهاده أو إنتصاره في معارك ضد أعداء الوطن وليس ضد أبناء الوطن.كما ان قداسة أو حصانة الشرطي ورجل الأمن يفرضها دوره في حماية المواطن وتوفير الأمن له، وليس إنتهاك حرية وحقوق المواطن وإذلاله.
القداسة الحقيقية يجب أن تكون للمواطن العربي وحقوقه، وللشعوب التي قامت الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها وأصدرت دساتيرها وقوانينها بإسم هذه الشعوب التي تستمد منها وجودها وشرعيتها.وبالتالى فإن الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى لا تختلف مكانة وحصانة وقداسة عن غيرها من أجهزة الدولة كجهاز التعليم وجهاز القضاء وجهاز الصحة...الخ "فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته " و"إن اكرمكم عند الله أتقاكم " وإنه ليس هناك حصانة أو قداسة أو إمتياز لأي زي رسمي عسكري أو أمني ولا لأي منصب او وظيفة، فوق المواطن والشعب، ويبقى الحق والعدل والقانون، مصدر الحقوق والواجبات للجميع.

كان الخوف والرعب، بسبب إستبداد الأنظمة وهيمنة الأجهزة الأمنية، يشل حركة وتفكير المواطن العربي، الذى جاءت ثورات الربيع العربي لتفك قيده وتطلق سراحة من سجون الخوف المظلمة التى قبع فيها عقود طويله، وها هو المواطن العربي اليوم ينظر بسخرية وإستصغار لهراوة الشرطي الذى يهدده بها في مسيراته وإحتجاجاته السلمية، وها هو ينظر بإحتقار لفوهة البندقية التى يوجهها جندي النظام المستبد في إتجاهه، ويرى في الأسلحة الثقيلة للجيش في شوارع المدن العربية وميادينها وصمة عار وجبن وهروب من ميادين القتال ضد العدو الحقيقي للأمة، أما جحافل الأجهزة الأمنية والإستخبارية التى لا هم لها سوى رصد حركات المواطن وأفعاله واقواله فهو لا يرى فيها سوى عالة على المجتمع ومعيق للتنمية والإنتاج. وها هو المواطن العربي لأول مرة أيضاً يرفض الإعتراف والخضوع لإي قوانين او إجراءات لا تصدر عن مؤسسات شرعية دسنورية تمثله.

ورغم كل ما يتعرض له الربيع العربي من مؤامرات وإنتكاسات وثورات مضادة، فإن كسر حاجز الخوف، أو بتعبير أدق، ذبح الخوف نفسه فداءَ لحرية المواطن العربي، يعتبر من أهم المكاسب التى لم يعد بإمكان أي قوة على ظهر الأرض سلبها، لقد إنهارت اسوار سجن كبير أُسمه الخوف، كان يعتقل خلف قضبانه أجسام وارواح وعقول أكثر من300 مليون عربي، ها هم اليوم يحلقون في الآفاق بلا قيود ولا خوف، ويهتفون بكل ثقة وامل في المستقبل...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات