هجرة الشمال إلى الجنوب


ثمة هذه الجمل المدهشة التي في وسع المرء أن يقتبسها، ويعيد اقتباسها، دون أن يستنفد دلالاتها المتعددة، الأدبية والثقافية والإنسانية: "بغتة اكتشفنا وجود نفس بشرية أخرى... في الجنوب"؛ أو: "علّمنا الجنوب أن نرى ما وراء الحجاب"؛ أو: "اكتشفنا عبقرية الصحراء، في رفيف نحلة الجنوب"... التوقيع دائماً للأديب والطيّار الفرنسي الشهير أنطوان دو سانت ـ إكزوبيري (1900 ـ 1944)؛ وأمّا الطرف الثاني وراء معادلة التعلّم، بعد الاكتشاف والاعتراف، فهو الجنوب: جنوب الجغرافيا، وجنوب البشر، وجنوب العبقرية الأخرى الخبيئة.

وفي السنوات الأولى من القرن الماضي كانت مخيّلة البشر عن الطيران، وعن الطائرة، أقرب إلى رؤيا حزقيال عن الحيوانات الخافقة بقوّة البكرات، المحلّقة في فضاء "أرض الكلدانيين عند نهر خابور"، قبل آلاف السنوات: "وتحت المقبّب أجنحتها مستقيمة الواحد نحو أخيه.

لكلّ واحد إثنان يغطيان من هنا ولكلّ واحد اثنان يغطيان من هناك أجسامها. فلما سارت سمعت صوت أجنحتها كخرير مياه كثيرة كصوت القدير صوت ضجة كصوت جيش". كانت هذه، أيضاً، هي المخيّلة التي تملكت فرانز كافكا حين كتب ذلك النصّ الأخاذ عن العرض الجوي في مدينة بريشيا الإيطالية، سنة 1909؛ أو فيليبو توماسو مارينيتي، حين وضع بيان المدرسة المستقبلية في الأدب والفن، السنة ذاتها؛ أو المعماري الفرنسي لوكوربوزييه، حين هتف بحماس: "الطائرة هي طليعة الجحافل الزاحفة باسم العصر الجديد".

ولا ريب أنها كانت المخيّلة الجامحة ذاتها التي استحوذت على صبي في الثانية عشرة من العمر، وقف منبهراً أمام مشهد تحليق الطيّار الأمريكي الرائد ولبور رايت في سماء منطقة أونوديير الفرنسية. ومنذئذ، بات سانت ـ إكزوبيري عاشق الطيران، المجنون به وصريعه، وستنتظر الإنسانية حتى عام 1931 لكي تصدر رائعته الأولى "طيران الليل"، حيث تحررت المخيّلة من غموض رؤيا حزقيال، ورأى النور واحد من أرفع النصوص الأدبية التي تناولت تلك البرهة الطارئة الخاصة تماماً: لقاء الطيّار بعوالم أخرى مختلفة، معلّقة في نقطة فراغ موحشة، وغنية عميقة، بين السماء والأرض.
وحين كبر الصبي واحترف الطيران ومارسه كمهنة، أخذ هذا العشق المبكر يتقلب مع تقلبات الطائرة، من طور إلى آخر، ومن جيل إلى جيل، ومن مهمة مدنية سلمية إلى أخرى حربية قتالية. ولكنّ الطيران ظلّ، في الجوهر، رحلة استعارات مفتوحة مترابطة: إيصال بريد الجنوب إلى بقاع نائية بكر هي "أرض البشر"، وحيث يموت "الأمير الصغير" ليحيا ويخلد كالعنقاء (من عناوين روايات سانت ـ إكزوبيري)، ورحلة اكتشاف الآخر في كبرياء نفسه وكبرياء عوالمه، وفي طيره وزرعه وضرعه وجغرافيته. كان هذا المعنى الحافل هو بوصلة سانت ـ إكزوبيري، وأنيس وحشته، في ساعات الطيران الممضة بين تولوز الفرنسية إلى اليكانته الاسبانية، نزولاً إلى جنوب غرب أفريقيا نحو الدار البيضاء ودكار، ثمّ عبور الأطلسي إلى جنوب أمريكا، نحو بيونس أيريس وريو وسانتياغو وأسانسيون وباتاغونيا...

و"بريد الجنوب"، روايته التي صدرت عام 1928، حملت العبء الأكبر، والأبكر، في تمثيل ارتطام معاني كينونته الأوروبية، إزاء معاني كينونات الآخرين، على أرضهم وتحت سماواتهم. كان سانت ـ إكزوبيري آنذاك واقعاً تحت تأثير فلسفة بيرغسون في جانب حاسم، هو فكرة التصارع الدائم بين المطلق الثابت والكون المتطور المتحوّل. وأعظم الأجزاء في ذلك العمل الروائي، الفلسفي الصافي في أحد أبرز سجاياه، هي تلك التي تدور حول ميتافيزيقا الزمن والحركة والتبدّل، ورغبة اختراق القشرة السطحية من أي واقع مُعطى، وتوق الوصول إلى العَصيّ المستغلق. وفي الرواية لا يكفّ بيرنيس عن تمثيل عقلية البرجوازي المستكين إلى استقراره وأمنه وركوده، حتى حين يكون قريباً من المطلق الأقصى في السماء؛ أمّا جنفييف فلا تكفّ، بدورها، عن تمثيل النقيض: الرحلة المستديمة إلى الأصقاع المجهولة، والسعي ـ في الآن ذاته ـ إلى حيازة دور العامل الموحّد لتناقضات بيرنيس وانشطارات روحه. وإذ يموت بيرنيس، بعد برهة وجيزة من خسران "ثقالة الجسد" في جغرافية الجنوب، فإن جنفييف تواصل وصيته وتتابع التدريب على "رؤية ما وراء الحجاب".

وذات يوم اعتبر الناقد الأمريكي كريستوفر مورلي أنّ "سانت ـ إكزوبيري هو جوزيف كونراد الفضاء"، فأكمل الأديب الفرنسي أندريه موروا المقارنة: "مثل كونراد كان سانت ـ إكزوبيري شاعراً، ومثل كونراد الملاّح الشجاع كان سانت إكزوبيري ملاّح جوّ شجاعاً. وليس الأمر أنهما وصفا حالات بطولية فائقة ومتفوقة على الحدود الإنسانية، إذ أنّ العكس هو الصحيح. لقد جعلا الحالة البطولة مسألة إنسانية صرفة". الإنسانية، وليس فرنسا وحدها، لا تكفّ عن تكريمه، فقبل أيام أفلحت سوذبي، دار المزادات الشهيرة، في بيع مخطوط فصل واحد من "أرض البشر" بقيمة 312 ألف يورو؛ كما انعقدت في باريس ندوة دولية لافتة تناولت دلالات أدب سانت ـ إكزوبيري في مسائل التعاضد الإنساني بين الشعوب، وتنمية حسّ المواطنة، والبحث عن "أمير صغير" للقرن الحادي والعشرين.
وإذْ تطفح بعض ردود الفعل العنصرية على كارثة سقوط الطائرة اليمنية فوق سواحل جزر القمر، وكأنّ هذه الشركة هي الوحيدة التي تعرّضت لحادث مماثل، فإنّ المرء يستذكر مسعى سانت ـ إكزوبيري إلى إقامة طراز فريد من التآخي بين سماوات البشر وأراضيهم، في اتساع النصّ الأدبي كما في ضيق قمرة القيادة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات