وداعاً يا أمي


اليد التي هزت سريري في سني حياتي الأولى هي ذاتها من اقترفت هز رجولتي في عنفوانها!؟

قبل أيام فارقتني رفيقتي السبعينية بطهرها وجلال وقارها وهيبة أنوثتها إلى غير عودة .. امرأة عجلونية في بلاد العرب تعلقتها وتشبثت بثوبها منذ نعومة أظفاري لأجد نفسي في العقد الثالث من عمري ناكصاً إلى طفولتي أتشبث يدها خوفاً من فقدانها (وهو ما حصل !) ... فارقت يدها يدي ورمقتني قبلها بعينيها المُنهكتين حينما رقدت على فراش الموت لا تقوى على الكلام لتدع عيوننا تتحادث بما كثر بيننا من ذكريات ومودة، وأي ذكريات؟ ... اااه واااه على تلك الذكريات، وأي نظرات؟ نظرات كانت تهزئني وتسحق ما تبقى بي من قوة.

أيتها النفس أجمل جزعاً ...... إن الذي تحذرين قد وقعا

لا أعلم من أين أبدأ الحديث، لا بل كيف بدأته، واقسم لك يا أمي الحبيبة أنها من المرات النادرة التي شعرت بها بالارتباك والتبعثر والتأخر فيما أكتب ... من أين أبدأ الحديث وحكايتي معك تنوف على27 عام هي التي أذكرها من عطفك وحنانك ومودتك ... من أين تتفتح قريحتي لذكرياتك العطرة، وكل ما في جسدي ينبض لك، ويهتف ويصعد من أجل الثورة على رحيلك، لولا سلوان خالقك ... فأي امرأة أنت .. وأنت الوحيدة التي حركتي بي مشاعر وانفعالات كانت راكدة بذاتي منذ سنوات، أي امرأة أنت وأنت الوحيدة التي جعلتني أتقرب ممن تحبين، وأقوم علاقاتي مع الآخرين على أساسك.

"أمينة .. هيه يا أمينه .. اصحي وأقعدي النهار طلع" بهذه اللغة الشرقية الآمرة كان والدي العزيز يوقظ أمينه وقت الفجر، كنت استغرب من أن أمينه تنهض على الفور دون تأخر أو تذمر ... كنت استغرب كيف تظل مسجاة على كرسي ليل نهار بجانب سريري في المستشفى وقت مرض الطفولة .. لا زلت أستغرب كيف أن جنس ذلك المخلوقة يقوى على ما لا تقوى عليه الصخور.

أمينه أيتها الرفيقة الجميلة ... اقسم لك أنني لا زلت مفتوناً بعينيك ووجنتيك وطلعتك البهية وابتسامتك الساحرة التي تبدد كل هم وتنجلي عن قلب أبيض نظيف لا يعرف إلا المرح ... اقسم لك أنني لا زلت أتعلم منك دروسا بالاختصاص النفسي ومجاراة طبائع وسلوك البشر، وسأراجع إرثك التربوي ... اقسم لك أنني بعد فراقك أدركت ما هي المرأة وعرفت معنى كلمة أم.

أيتها السوسنة الحنونة اللينة: أعدك أنني باق على دينك وعروبتك وأعرافك وقيمك .. أعاهدك أنني لن أنسى البلوطة وجبل عوف والمدرقة والمنسف وفرن طابونك وقهوتك العربية المرة وحناءك وبخورك وسبحة مذهبك وهجينتك التي أظل أطرب لها .. لن أنسى دامرك ذو الوجهين الأزرق والأخضر وعرجتك وعصابة رأسك العربية .. وسيظل نهر الأردن مشربي وبني صهيون عدوي.

أمي الحبيبة: سأظل محتفظا لك بأنك صاحبة أبي ومؤنسته وشريكة حياته وشهر زاده التي ظل يطرب إلى حديثها، ولن أنسى لك إخلاصك ووفاءك له لما بعد مماته .. حين تتقلب الدنيا والبشر ولا يبقى لذلك الأب سوى ملكته التي إليها يلتجئ.

أمينة أيتها الجميلة سأعترف لك بأني قبلت التحدي الذي فرضته علي، وجابهته بقسوة اخرى كتلك التي انزلتيها بي، فلم أسقط دمعة واحدة على فراقك، رغم كل الدموع التي تحتصر خلف مقلتي، وكل الكلمات التي يتشردق بها جوفي، متحملا كل حرائق قلبي، وكل اللظى الذي يلذع أحشائي، فهلا من بعد ذلك قسوة؟ ... ربما حكمة مماتك كبيرة جنبتني الكفر والحماقة والجهل .. فلو طلبوا مني كل ذلك مقابل بقاءك لاندفعت لفعله ..... أأقول لك: للحظة .. تمنيت لو كنت مثل (جالاتيا) لأجل أن أظل أراك.

مولاتي .. يا أم طالب .. لست أخر النساء ولا أولهن ... لكنني أٌقر بأنك الوحيدة التي حركتي مشاعري منذ سنوات ... باختصار: اقر بالهزيمة أمامك يا أمي .. وأعتقد بأن مشوار الجثوم على أطلالك لم يبدأ بعد .. وقد أبكي حين سماعي نبأ وفاة أي أم .. ليس ذلك سذاجة مشاعر أو فيض انفعال، وإنما وفاءا لذكراك يا أمي.

فيا أم هذا الصبي إن كنت لا زلت تحبينه كما يحبك؛ فنرجوك أن تذكريه كما يذكرك .. ويا أم هذا الصبي إن كنت لا زلت تحن له كما يحن لك؛ فنرجوك أن تفسحي له بجوار قبرك مكاناً علّه يرقد به عندك .... يا أم هذا الصبي إن كنت لا زلت تشفقين عليه؛ نتوسل إليك أن تأتي له بأحلامه ولو كلمح البرق.

للحظات أشعر بأنني عدت ذلك الصبي الذي يطرق بيوت الأقارب والجيران بحثا عن أمه حين لم يجدها في البيت " أمي عندكوا ؟ ... أمي عندكوا؟" وبعد ذلك ودون تأخر يجدها فعلا في بيوت أحد الأقارب ذهبت لقضاء واجب اجتماعي .. أما اليوم فلم يجد ذلك الصبي أمه ببيوت الأقارب ولا ببيوت الجيران ولا ببيوت الأرض كلها .. ما أصعبها على من اعتاد أن يسمع ويحس ردّ أمه حين منادته لها، وبعد ذلك ينادي نفس نداءاته ويصرخ فلا يجد الرد ... كم هي قاسية على الكائن الإنساني حين يصدر بحقه قرار مضمونه: أنك صرت ألان بلا أم.



تعليقات القراء

البيوت اسرار
رحم الله امك يا اخي و أسكنها فسيح جناته. استمر في برك لها و ادعو لها في صلاتك و تصدق عنها .. ورحم الله سائر امواتنا
05-01-2014 06:24 PM

أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات