رأس السمك


تساءل صديقي الذي يجلس الى جانبي لمشاهدة الاخبار, بعد وجبة اخبارية دسمة من الدماء والاشلاء والدمار والقمع والاقتتال والاعتقال امتدت من الصومال الى باكستان وافغانستان مرورا بايران والعراق والسودان (ما الذي حدث لهذه الامة, المسماة اسلامية, لماذا يفعلون ما يفعلون ببعضهم وكأنهم (مافيا) الارض وحوش تفتك ببعضها في غابة غابت عنها القوانين وحتى الرحمة?

ومثل هذا التساؤل اخذني بعيدا الى لحظات من التفكير في حاضر شعوب هو اسوأ من كوابيس الليل المزعجة. ومن قبل سمعت, في محاضرات وندوات عن (قوس الازمات) و(قوس اللاجئين) في العالم الذي يضم في معظمه, ان لم يكن كله, دولا عربية واسلامية, فحصة العرب والمسلمين هي الاكثر بين شعوب العالم في عدد اللاجئين البالغ (48) مليون لاجئ, وهم اكثر شعوب العالم ضحايا ارهاب يرفع شعار الاسلام, وهم اكثر شعوب العالم الذين تُعمّر ازماتهم عقودا, وبدلا من ان يطفئ الزمن نار احقادهم وحروبهم, نراهم يتفننون في التعايش والتطبيع مع القتل الجماعي, والاقتتال اليومي, حتى ملّ الرأي العام العالمي اوضاعهم وبات يُصنّفها كما يُصنّف الاوبئة والامراض المستعصية مثل السرطان.

قلت لصديقي, لا اعتقد أن المشكلة تكمن في الشعوب او في جينات الانسان العربي او المسلم -كما يصور غلاة العنصرية -انما هي (مشكلة الرأس) مشكلة الحكومات في مناطق الازمات والصراعات, فلو كان الرأس سليما معافى, ناضج العقل والروح, لكان الجسد على شاكلته. وتذكرني هنا قصة بائع السمك العراقي, الذي كان يمسك السمكة ويشمها من ذيلها ثم يلقي بها جانبا في عملية فرز الطازج عن الفاسد, فسأله احد المشترين مستغربا: انا اعرف ان الناس تشم الرأس وليس الذيل, فاجاب البائع: لان الرأس فاسد في جميع الاحوال لكني اخشى ان يكون الفساد قد وصل الذيل.

لو دققنا في دوافع واسباب العنف والاقتتال والحروب المستمرة في بلدان قوس الحروب واللاجئين لوجدنا ان (الاستبداد) العامل المشترك, وهي صفة لم تقتصر على الدول والحكومات انما امتدت الى الاحزاب والحركات السياسية. لا احد بريء من حب السلطة وفعل اي شيء في سبيلها, وتصفية الخصوم والمعارضين اصبحت تقليدا وعرفا وسياسة في هذا الشرق الكئيب.

لا توجد ثقافة سياسية ولا حتى بنية اجتماعية تسمح ببناء تقاليد الحوار والعمل الديمقراطي المستند الى المصالح المشتركة لجميع الفئات والاشخاص والجماعات, الجميع ظهره الى الحائط متمترسا خلف ايديولوجيات متحجرة ومتخلفة او خلف ترسانة من اسلحة القمع لا يرى فرصة له في الحياة ان لم يُصفّ خصومه بقناعة انه هو الزعيم الذي لا يأتيه الباطل من امامه ومن خلفه.

لا احد يقبل فكرة (وجود معارضة) وبأن هذا جزء من شرعية اي نظام, ان فلسفة الحكم عندهم طحن المعارضة وتكميم الافواه وفتح المعتقلات والسجون واذا تطلب الامر المجازر.

ولهذا السبب ابتعدت الشعوب, عن مفهوم (المعارضة) والحوار السلمي, واصبح العبد يقلّد سيده. وفق نظرية فرانز فانون في كتابه »المعذبون في الارض« لهذا نرى كثيرا من الدول التي حاولت انتهاج الطريق الديمقراطي تتحرك في فراغ داخلي, فالشعوب تعزف عن الاحزاب وعن المسؤولية في المشاركة الديمقراطية, وتحتقر الانتخابات لانها لا تثق بامكانية ان تتنازل الحكومات عن شيء من سلطاتها.

الاستبداد هو الداء, ومن دون عصر للتنوير تُفتح فيه الابواب على مصاريعها للشمس والنور في هذا العالم العربي الاسلامي, فان قوس الازمات والحروب سيتكاثر ويتوالد مآسي وكوارث جديدة الى ما شاء الله.

انه الاستبداد, الذي تحدث عنه عبدالرحمن الكواكبي ومحمد عبده قبل اكثر من قرن. الاستبداد الذي يهدد بسحق الجسد وفساده اذا ظل ايديولوجية حكم, وايديولوجية معارضات وحركات وتنظيمات تفننت في سفك الدماء وزرع الفتن وتدمير الاوطان والشعوب.0

 


taher.odwan@alarabalyawm.net



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

تنويه :
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة جراسا الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة جراسا الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر عن رأي الموقع والقائمين عليه.

- يمكنك تسجيل اسمك المستعار الخاص بك لإستخدامه في تعليقاتك داخل الموقع
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضاً

رياضة وشباب

محليات